الجمعة، 21 سبتمبر 2012

رحلة مع مصطفى محمود



الأشجار التي نستظل بظلها اليوم، كان قد غرسها أناس قبلنا. فحريّ بنا أن نتعرف على هؤلاء الغارسين؛ لنكون أهلا للحصاد. وهؤلاء الواقفون على قمة الجبل، لم يهبطوا من السماء هناك، بل صعدوا من السفح بالضرورة. ففي قرية «ميت خاقان» من أعمال مدينة شبين الكوم وُلد مصطفى كمال محمود حسين، الكاتب الروائي الصحفي الأديب الطبيب، الذي لم يجاهر بأن نسبه من جهة أبيه ينتهى إلى الإمام الحسين (رضي الله عنه)، وأكرِمْ به من نسب.
وفي هدوء القرى النظيفة الوادعة، كان الطفل يحمل صُرّة الطعام، يمشي إلى حلقة تحفيظ القرآن في الكُتّاب، ليمتلئ من نور قول الحق: «والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى»، ولتُحفر في أعماقه صورةٌ درامية مجسّمة من قول القرآن: }وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى{، لكي يستقر في وجدانه منذ البدايات أن القرآن كائن حي، وأن الإيمان رجولة وسَعْي.
بعد ولادته بأيام انتقلت الأسرة إلى مدينة طنطا ذات الطابع الريفي بوسط الدلتا. حياة القرية والنهر والقرآن علمته السفر في الخيال، لكي يعوض في خياله ما لم يستطعه في عالم الواقع الصغير المحدود.
ولكن عصا مقرئ الصبيان حرمته من مواصلة متعة الاقتباس من أنوار القرآن. وعصا المدرس أوقفت استمتاعه بالتفوق في سنته الأولى الابتدائية. ولكنه وجد في حصة الرسم متنفسًا لخياله وأحلامه، ومنطلقًا لعواطفه، ليصبح في المرحلة الثانوية من ألمع طلاب مدرسته، ثم يصير فيما بعد أشهرَ من أن يُعرَّف به.
بالحب وحده كان يقلد تلاوة الشيخ «محمد رفعت»، وبالحب وحده كان يؤلف قصصًا من وحي المخيلة، يحكيها لطفلة تعلق بها وجدانُه الغض، بعيدًا عن الخوف من خشونة المدرسين.
أحبَّ العِلمَ، وموسيقى الناي، وموسيقى الكون الفسيح، وعَشِقَ الارتحالَ في الآفاق، والسفر في الخيال.
وبعد أن تكيف مع حالة التعليم النظامي المحبِط، استعلى برغباته من خلال الكتابة والنغم، وصارت «الكلمة» بالنسبة له حياة ومتنفسا. كتب يوما رسالة إلى أخيه «مختار»، فلما اطلع عليها الشيخ «محمود الصياد» صديق أخيه علق قائلاً: «سيكون هذا الطفل أديبًا يومًا ما». وصدقت النبوءة؛ فقد ألف مصطفى محمود كتبًا تفوق عددًا عدد سنوات حياته على الأرض، سجّل فيها إدراكه للعالم عبر القرن العشرين.
(لذا فمن الغرور ومن الحماقة أن يتوقع أحد جمع أشتات هذه الشخصية في بحث واحد).
إن كتبه هي أكبر لوحة شرف يُكتب عليها اسم طالب مجتهد. لكن لوحة الشرف هذه مكتوب عليها أيضا: «إن بناء السمعة الحسنة يحتاج عمرًا مديدًا، وأما تلويث السمعة فيحدث في دقيقة واحدة». فليس من بين كتب مصطفى محمود كتاب واحد مقرر على الطلاب في أي مرحلة تعليمية! لقد كَتَبَ عن البهائية قبل أن يسمع بها أحد في الإعلام المعاصر، وكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن قبل أن يتعرف العوام على الدكتور زغلول النجار، وتنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين. لكن أعظم إنجازاته كانت تقريب العلم المعاصر إلى بيوتنا وإلى لغتنا اليومية، وذلك قبل أن نعرف قنوات ديسكفري وناشيونال جيوجرافيك. لقد حمل أمانة (تجديد) الخطاب الإسلامي في مواجهة الساعين إلى (تبديد) ذلك الخطاب.
إذن فالأسماك الميتة وحدها يجرفها التيار، أما تلك القوية فتسبح ضده. ولو نشأ مصطفى محمود في أوضاعنا الحاضرة لربما فصله وزير التعليم لتكرار رسوبه ثلاث مرات!! إنه درس بليغ في توليد النجاح من ركام الفشل. وإن شئت فقل إن أحكامنا على الطفل قد تبعد عن الحقيقة بُعد المشرقين وبُعد المغربين.




تألق في المدرسة الثانوية

في المدرسة الثانوية تفتحت هوايات الشاب: الغرام بالعلوم، والتجارب العلمية، وإدمان القراءة، ومصاحبة المجهر (الميكروسكوب)، وقرض الشعر والأزجال، وحبك القصص، والعزف على العود والناي. ليصير صوت الناي مرادفًا لبرنامجه التليفزيوني الأشهر «العلم والإيمان»، من إنتاج شركة الرياض للإنتاج الإعلامي. ولتصبح الموسيقى المصاحبة لهذا البرنامج (أيقونة) بذاتها، بعدما أنتج منه أربعمائة حلقة، حازت أعلى نسب المشاهدة دون منافس، والتفت حولها عقول الناس وقلوبهم، من المحيط إلى الخليج. أولئك المتعطشون إلى الكلمة النافعة والنبرة الصادقة والضحكة الصافية واللهجة المخلصة، والخطاب الذي ينبع من القلب ليصل إلى القلب، فيوقظ العقل ويصلح في الأرض.
عشق صاحبي الناي، لأنه الآلة الموسيقية الأقرب إلى الذات الإنسانية؛ فالصوت ينبعث مع الأنفاس، مع آلية عمل الصدر، مع الآهات. فكأن السامع يسمع صوت الإنسان لا صوت الآلة. فالناي قطعة من نبات الأرض، وقبسة من الطبيعة البكر الحنون، لم تلوثه ألاعيب كهربائية ولا بهلوانيات التكنولوجيا.
وغرامه الأكبر بالعلم جعله أشهر من أفلح في تبسيط العلوم؛ فقد كانت مصر عن بكرة أبيها تنتظره كل أسبوع، لتغوص معه في أعماق الكون السحيق، وفي أغوار النفس البشرية، وفي كهوف الخفافيش، وقيعان المحيطات، ومجاري الأنهار، ثم تلج إلى بيوت النمل وخلايا النحل، وكريات الدم، ثم تحلق إلى قمم الجبال، ومدارات الأفلاك، ومكنونات البروتونات والنيوترونات، ثم تدخل إلى قصور العظماء، وتنزلق إلى حواري الحرافيش. لا يريد من وراء هذه الرحلة الكبرى سوى أن يوصلك إلى الخالق الحي القيوم.
}وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين{ (سبأ: 3).
}قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى{ (طه: 50).
إنني لا أضم فقط صوتي إلى أصوات المنادين بإعادة بث برنامج العلم والإيمان، وإنما أدعو علماء الأمة إلى استكمال الرسالة وتطويرها لمواكبة كل ما يدور في العالم، برؤية وبصيرة مصطفى محمود.
برع الطفل مصطفى محمود في الحكايات المحبوكة التي كان يخترعها أمام الطفلة «عدلية» في القرية. هذه البراعة في فن القصص جعلته يتحدث إليك كأنكما صديقان حميمان. وعندما قدم برنامج العلم والإيمان قدمه بلغة فائقة الوضوح، في قالب سردي يأخذ بالألباب، يستحوذ على انتباه الصغار والكبار، العلماء والبسطاء. وإن القلب ليقطر أسى لإيقاف بث هذا البرنامج.
وفي المرحلة الثانوية نشر في مجلة المدرسة أول قصة، ونال عنها جائزة ذات شأن (خمسون قرشا وحقيبة). ألا فليتأمل المربون إلى أي مدى يمكن أن يصنع النشاط التربوي مصائر الأجيال الصاعدة.
وفي المرحلة الثانوية عاش مراهقةً حافلةً بالنشاط ليس فيها فراغ ألبتة. فالوقت لا يكفي للقراءة والكتابة والتجارب المعملية والرحلات، بل إن الدنيا كلها كانت أصغر من أحلامه: فقد حلم بأن يكون شاعرًا وقصاصًا وموسيقارًا وصحفيًا وطبيبًا وعالمًا ومخترعًا ورحّالة.
وفي المرحلة الثانوية فقد حماسته الدينية إلى حين، لكنه لم يفقد روح التأمل والتساؤل والتعقل العميق. حتى وضع عصا الترحال على شاطئ اليقين خادمًا لكلمة «لا إله إلا الله».




الطبيب

وبعدما توفي الوالد سنة 1939 انتقل مع الوالدة من طنطا إلى القاهرة، ليلتحق بكلية الطب. وفي كلية الطب جرّب حياة التمرد على الأسرة وعلى قيود المجتمع، ولم يوقظه من تمرده إلا مرض التيفود الذي هاجمه، بسبب إقامته في (بَنْسِيون) في «حِلوان» بعيدًا عن العائلة، وسهراته في الأفراح ليلا، وعمله في الصحافة نهارًا، إذْ عمل محررًا صحفيًا مبتدئًا، بمرتب 12 جنيهًا شهريًا، في صحيفة «النداء» الوفدية، لصاحبها ياسين سراج الدين.
تعلم من المرض أن النجاح في دراسة الطب هو المنقذ له من مرضه، والمنقذ له من حياة الصعاليك. وبالفعل انصاع طالب الطب مصطفى محمود لنصح والدته وشقيقه، فتجرّد للدراسة الجامعية، حتى ظفر بشهادة الطب والجراحة. فكأنه تمثَّل بالحديث: «لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟».
كانت قد جمعته خبرة العمل الصحفي مع مجموعة الشباب: أنيس منصور وكامل الشناوي ويوسف إدريس. وقد فاجأهم جميعًا بحصوله على البكالوريوس، ولم يصدقوا أنه صار طبيبًا إلا عندما شهد الشناوي حفل التخرج بنفسه.
ثم عمل طبيبًا في مستشفى الصدر في أقصى أطراف صحراء القاهرة آنذاك. وفي هذه المستشفى (مصحّة ألماظة) كانت فرصة للتأمل والخلوة في نهاية كل أسبوع، وراح يراقب عنكبوتًا يتحرك على الأسلاك التي تغطي النافذة. أثمرت هذه المراقبة فيما بعد عن روايته (العنكبوت) عام 1960. وفي هذه الظروف كتبَ «عنبر ٧» و«رائحة الدم» و«لغز الموت».
وعندما سئل ماذا يملك الطبيب من إمكانات تشجعه على أن يكون أديبًا؟ أجاب بأن للطب علاقة وثيقة بالحياة وأسرارها وخفاياها، فالطبيب هو الذي يحضر لحظة الميلاد ولحظة الموت، وهو الذي يضع يده على القلب ويعرف أسرار نبضه، وكل الناس يخلعون ثيابهم وأسرارهم، بين يدي الطبيب، فهو الوحيد الذي يباشر الحياة عارية من جميع أقنعتها. لذلك نجد الطبيب الأديب يقدم للناس العلم على طبق من الفن، أبدعته مخيلة أديب أو كاتب سيناريو.




لغز الموت

عاين مصطفى محمود الموت وليدًا وطفلاً وشابًا وشيخًا كبيرًا؛ فقد مات توأمه عقب الولادة مباشرة. ثم حدث أن أعلن طبيب القرية عن موت الطفل المريض مصطفى محمود، ليكتشفوا بعد أن جهزوه للدفن أنه لم يزل على قيد الحياة!! ثم يدخل الشاب كلية الطب، ويمضي الساعات الطوال داخل مشرحة الكلية، حتى لقبه أستاذه بالمشرحجي، لكثرة ما كان يمضي الوقت في المشرحة وسط الجثث، يتعلم ويتأمل واقعة الموت. وعندما أنشأ مسجد محمود اتخذ لنفسه غرفة صغيرة فوق المسجد، سمّاها «التابوت»، إذ كانت ضيقة تذكر بالموت ووحشة القبور، لكنها كانت مرصدًا لألعاب السيرك السياسي، وأبعاد «المؤامرة الكبرى»، و«لغز الحياة» و«لغز الموت» و«...بوابة الموت» و«الوجود والعدم»، و«سقوط اليسار» و«حقيقة البهائية»، و«قراءة للمستقبل» و«الغد المشتعل»، و«...عصر الجنون»، و«عصر القرود».
وعندما وضع مشرط الجراح في جثة آدمي، راح يتساءل: هل هذا هو الإنسان؟ وهل هذا هو المخ الذي يفكر؟ وهل هذا هو القلب الذي يحب؟ وهل الإنسان هو هذه الأحشاء التي يضمها الوعاء الذي نسميه الجلد؟ وما الفارق بين اليقظة والنوم؟ وما الفارق بين النوم والموت؟ وكانت هذه الأسئلة هي نواة كتابه (لغز الموت). لم يجد جوابًا عند الفلاسفة، بل قال: «إنني دخلت إلى الفلسفة في حيرة، وخرجت منها أكثر حيرة». فقد مرّ على مؤلفات فرويد ويونج وآدلر ووليام جيمس، وعرج على أفكار البوذية والزرادشتية والهندوكية. وقبل ذلك تعمق في كتب التشريح والفيزياء والكيمياء. فما كان لدى أحد من هؤلاء من جواب. وبقي السؤال المتحدي: «من أين؟ وإلى أين؟».
ثم صار الرجل يؤكد في كل مناسبة: «لا يكون العلم كاملاً إلا إذا أوصلك إلى العلم بنفسك، ثم إلى العلم بالله. فذلك هو العلم حقًا». وختم مقالاً له بقوله: «والعاقبة خلود في الجنة أو خلود في النار‏..‏ ولا يوجد وسط‏..‏» الوسط الوحيد الممكن هو وسطية الفكر والممارسة، وللتوضيح ننقل عنه قوله: «الأستاذ (فلان) حر في أن يكتب ما يشاء، ولكننا أحرار في محاسبته.. والذين يطالبوننا بالتصفيق لما يكتب هم إرهابيون من لون جديد يريدون مصادرة حرياتنا.. إننا ضد أي متطرف متهوس.. بمثل ما أننا ضد أي متطرف يحاول أن يهدم إيماننا وتاريخنا تحت دعاوى الحرية الكاذبة والتنوير» (زيارة للجنة والنار ص 109).
وقبل وفاته بثلاثة أعوام قال: «الآن‏ ‏لا‏ ‏يشغلني‏ ‏سوى‏ ‏التأمل‏ ‏فقط‏.. ‏أفكاري‏ ‏قلتها‏،‏ ‏و‏هي‏ ‏مجرد‏ ‏اجتهادات‏‏ ‏إما‏ ‏صحيحة‏ ‏وإما‏ ‏خاطئة‏؛ ‏لأن‏ ‏كلامي‏ ‏ليس‏ ‏قرآنًا. ‏ما‏ ‏يشغلني‏ ‏حاليًا‏ ‏هو‏ ‏متابعة‏ ‏أنشطة‏ ‏جمعية‏ ‏مسجد‏ ‏محمود‏ ‏الخيرية‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الأبقى‏». أجلْ هو الأبقى! هذا ما علمه إياه أبوه، الرجل الذي كان يعول تسعة أفراد، هم مجموع أبنائه وأبناء زوجته من زواجها السابق. إنه الأب الفقير حقا، لكن نفسه الغنية سمحت له طيلة العمر أن يتصدق بربع راتبه الشهري لله. هذه معلومات لا تستوقف كثيرًا من الناس، الذين تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون.




قل سيروا في الأرض فانظروا

وجد مصطفى محمود أن قراءة الكتب - على كثرتها - لا تشبع نهمه إلى المعرفة، فارتحل في الجهات الأربع: إلى تنزانيا، حيث صعد فوق جبل كليمنجارو، ومن هناك سيرًا على الأقدام إلى جنوب السودان، ليعيش ثلاثة أشهر في الغابة مع قبيلة الزاندي (نيام نيام)، وقبائل الشيلوك والدنكا والنوير، وليجمع قدرًا من عينات الصخور والأعشاب النادرة المنوعة، لتوضع في متحف ملحق بجمعية محمود الخيرية، وليسجل مشاهداته عن حياة القبائل الإفريقية، وأعمال التنصير وسطهم. وليبدي إعجابه بالذكاء الفطري عند الإفريقي البسيط، الذي قال له المنصّر: «إن الرب أمرنا بأن نبتعد عن السرقة والزنى». فردّ على البديهة: «إن الإنجليز الذين يحتلون بلادنا هم اللصوص الحقيقيون؛ لقد سرقوا ثرواتنا ومناجمنا وأخشاب الأبنوس، وحملوها على المراكب إلى بلادهم، فاذهبْ وانصحهم واتركنا».


وأمضى مصطفى محمود شهورًا بين «الطوارق» في الصحراء الكبرى، وفي لؤلؤة الصحراء مدينة «غدامس». ليكتب كتابه الممتع «مغامرة في الصحراء».
كما سافر طويلاً من بلاد الفطرة والبداوة والطمأنينة، إلى بلاد المدنية والرخاوة والقلق الإنساني، إلى الهند أم العجائب والملل والنحل وطاغور والسنسكريتية والبراهما واجيسوارا، وإلى ألمانيا بلد المصانع والورش واحترام الوقت، وإلى فرنسا بلد المسارح والصحافة، وإلى بريطانيا التي لا تقل عن غيرها في الاهتمام بالدجل والشعوذة، وإلى إيطاليا متحف الفنون والآثار المصرية (المسروقة). كما سافر إلى الأمازون ليحقق أحلامه القديمة بالذهاب إلى هناك.
وعندما توضأ مصطفى محمود من نهر بونا في يوغسلافيا تذكر الفاتحين الذين توضؤوا من هذه المياه. لقد كانوا في القرن الحادي عشر الميلادي تجارًا مسالمين، ولم يصعد جندي مسلم واحد إلى «دير اليوجوميل»، ولكن قاطن الدير هم الذين نزلوا مرحبين قائلين: «لقد كنا في انتظاركم.. لقد قرأنا خبر نبيكم في إنجيلنا». ومازال الدير على قمة الجبل يحكي القصة، بل يحكي ما صارت إليه المؤامرات في البلقان مع غروب شمس القرن العشرين. فأي تاريخ سنعلم أبناءنا؟
كان يقول: «لو حصلت على عمر آخر وخيروني بين أشياء عديدة فعلتها لاخترت السفر.. الترحال.. إنها كفيلة بأن تزرع بداخلك أي شيء آخر، فالسفر سيعلمك التاريخ، ويعلمك الفن، ويعلمك التجارة واللغات والتعمق في الدين».
لقد رأى وسمع وعايش الذين يقدسون الشجر والحجر والحيوان والطير والنجوم وأرواح أجدادهم، ثم وصل في خاتمة المطاف إلى اليقين بعظمة الإسلام وبساطته وملاءمته للعقل والفطرة النقية والمجتمع الفاضل.




إسهاماته الأدبية

أعدت مجموعته (عنبر7) و(شلة الأنس) للإذاعة المسموعة، وقدمت مسرحيته (الزلزال) على خشبة المسرح، وتحولت روايته (العنكبوت) إلى مسلسل إذاعي، كما أعدت روايته (المستحيل) للإذاعة والتليفزيون والسينما. وصنف الفيلم الذي أخرجه حسين كمال عن رواية المستحيل واحدًا من أهم مائة فيلم في القرن العشرين.

ولقد طغت حاسة الأديب في كتاب «زيارة للجنة والنار» الذي يحاكي فيه صنيع أبي العلاء المعري في رسالة الغفران. فأراد أن يصور مصائر الجبارين، لكنه احترز بقوله: «تعالى ربنا على كل ما نقول ونكتب.. فنحن في النهاية أسرى الكلمة، لا نستطيع أن نتجرد منها. وسجناء الحرف، لا نستطيع أن نتجاوزه.. والحقيقة فوق الكلمة وفوق الحرف، ومن وراء الكلمة والحرف.. والله من وراء الجميع.. إنما هو قول فيما لا يقال، ومحاولة أخرى لضرب المثال».
وكان المخرج المسرحي جلال الشرقاوي قد عزم على إخراج هذا العمل على خشبة المسرح، لكن حالت دون ذلك التكاليف الباهظة المطلوبة لتجسيد المشاهد. فمن ذا الذي يستطيع أن يصور للعيان الآيات القرآنية من 22 إلى 68 من سورة الصافات وحدها؟ أليس في هذا لون من الإعجاز يضاف إلى أوجه الإعجاز القرآني؟
وبعد أن فرغ مصطفى محمود من السرد الأدبي، انتقل مباشرة -وفي الكتاب نفسه- إلى اللغة الواقعية، ليحلل ما يدور في الديكتاتوريات الإفريقية والأمريكية الجنوبية، وصفقات الموت برعاية المخابرات والشركات الحقيقية والوهمية العابرة للقارات. (راجع القسم الثاني من كتابه: زيارة للجنة والنار، بعنوان «الجبارون الجدد» و«أكبر تنظيم إرهابي في العالم» ص 87-129).
وفي مجال الخيال العلمي قدم مصطفى محمود روايته «رجل تحت الصفر»، وظف فيها معارفه العلمية توظيفًا أدبيًا، أطلق فيه العنان لخيال جموح، لكنه لم يفلت من جاذبية التفكير في الموت، والتأمل في المصير الأخير للموجودات وللكون بأسره. وهذه الرواية فيما أرى من أصلح كتب مصطفى محمود للتدريس في مدارسنا.
قرأت وصفًا لكتابات مصطفى محمود الأدبية بأنها متوسطة القيمة، لكن هذا الوصف لم يصاحب الرجل في بداياته، وإنما ظهر بعدما انقلب عليه الأشخاص الذين رفعوه -في الخمسينيات والستينيات- إلى مصاف كبار الأدباء العالميين. فحين كتب قصة في مجلة «صباح الخير» عن (زبّال)، وصفته الأقلام يومها بأنه «أعظم كاتب».. وبأنه «تشيكوف عصره».
يقول مصطفى محمود: «عندما عدلت وعرفت الطريق الصحيح، كاد هؤلاء الناس يفتكون بى، اتهموني بالردة الاجتماعية والنكسة الفكرية. وقد حذفت هذه القصة من كل مؤلفاتي بعد ذلك، ولم أدخلها أي مجموعة قصصية». أجل! أليس في عالم الأدب والنقد كثير من الحواة والمهرجين؟ نعم! الحواة الذين وصفهم مصطفى محمود بأنهم: «سمحوا لك أن تكفر بالله وتكذبه‏,‏ ولم يسمحوا لك أن تكذّبهم‏».
من أجل ذاك قال مصطفى محمود: «ما رأيتني نازعت أحدًا خطّأني، ولا كرهت أحدًا صوّبني.. بل عهدت نفسي دائمًا أراجع ما أكتب، وأصحح فيه الطبعة بعد الطبعة.. وأقبل بصدر مفتوح نقد الآخرين. فإن رأيتني كتبت صوابًا فمن الله، وإن كتبت خطأ فمما سولت لي نفسي».




مسيرة طويلة نحو اليقين

في كتابه «الله والإنسان» (1956) التزم برؤية مادية أحادية، تفسّر كل شيء بمعطيات خبرة الحواس المباشرة. وعندما حوكم أمام محكمة أمن الدولة ترافع في القضية الدكتور محمد عبدالله المحامي على مدى ثلاثين يومًا. اكتفى على إثرها القاضي بمصادرة الكتاب، دون إفصاح عن حيثيات. وتثبت الأيام والوقائع أن مصطفى محمود لم يكن قط ملحدًا ولا شاكًّا في دينه.
لقد لخص كامل الشناوى الرحلة بقوله: «إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة»؛ إذ كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء. وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان، بدءًا من الديانات الأرضية مثل الزرادشتية والبوذية. ثم انتقل إلى الأديان السماوية، ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم.
أجل! أنقذه القرآن من عُقم سقراط، وتناقضات أفلاطون، وأحقاد ماركس، وظنون كانط وشوبنهور، وحيرة الفلاسفة كلهم، وأسئلتهم التي لا تولّد سوى المزيد من الأسئلة.

وأشهد أنني أول مرة سمعت فيها عن محمد بن عبدالجبار النّفّري كانت من فم مصطفى محمود. ثم قرأت «المواقف والمخاطبات» فأدركت أن مصطفى محمود هو أكبر المغرمين بالنفري، وحين عشت مع كتاب «رأيت الله» أدركت مدى عشقه لكتاب «المواقف والمخاطبات» إذ يسميه (التحفة الخالدة). ثم عثرت على ترجمة أرثر أربري الإنجليزية للمواقف والمخاطبات (cup,1935) ثم وجدت شرح كتاب المواقف لعفيف الدين التلمساني، فأدركت أن للكتاب لدى العلماء شأنًا أي شأن. ثم عرفت لماذا أصدر المجمع الثقافي في أبو ظبي نسخة صوتية من كتاب المواقف وكتاب المخاطبات، كأنها أنسام من السماء، لمن كانت له طاقة على التذوق والتأمل.

بالتذوق وبالتأمل تجول مصطفى محمود داخل ولايات أمريكا فقال: «ما أجرأه على الكذب ذلك الذي مشى على القمر، وارتحل إلى النجوم، وأخضع وحوش الغاب، حينما يدعي أنه لا يستطيع أن يحكم الوحش بداخله». لكنه يستدرك فيقول: «أكاد أقول إن أصدق تعريف للحضارة هو القدرة على التفاهم بين المختلفين، والقدرة على تجاوز التناقضات في المواقف والآراء والأمزجة، وتغليب الإنسانية والحكمة. وإنما تأتي حكاية التقدم العلمي والتكنولوجي نتيجة لهذه الصفة، صفة تغليب الحكمة والفكر». إنه الرحّالة الذي يرى الأشياء بعين الحكمة لا بعدسة الكاميرا.
ويجابه مصطفى محمود أدعياءَ العلم والذين يرون الغيب مجرد خرافة، فيذكر: «أن هناك مادة مظلمة خفية تملأ جنبات الفضاء والكون، وأن هذه المادة الخفية تشكل أكثر من 95% من الكون، وأن ما ندركه بوسائل إدراكنا من هذا الكون أقل من 5% من محتواه الكلي». فما معنى الجحود بالغيب إذن؟ يقول في بساطة: «حاصل جمع الكتل الموجودة والمرئية بمناظيرنا وكاميراتنا الفضائية ومجساتنا لأشعة إكس وأشعة جاما والأشعة تحت الحمراء ومنظار هابل تقول إن مجموع المادة الموجودة أقل بكثير من المقدار الذي يفسر هذا التماسك الجذبي القائم».
وسجّل ضمن ما سجل: «إذا كان الله منحنا الحياة فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة، وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى». وعبّر عن نعمة التوحيد فقال: «لأن الله واحد فلن يوجد في الوجود إله آخر نقض وعده، ولن ننقسم على أنفسنا، ولن تتوزعنا الجهات، ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء، وارتماء على أعتاب الأقوياء. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل مانطمح إليه بين يديه. والهرب ليس منه بل إليه. فهو الوطن والحمى والمستند والرصيد والباب والرحاب.. وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل، وتلك ثمرة «لا إله إلا الله» في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها ويؤمن بها ويعيشها، وتلك هي أخلاق المؤمن بـ«لا إله إلا الله».
بعدها بنحو عشر سنوات كتب مصطفى محمود «القرآن: محاولة لفهم عصري» (1968) ليؤكد أن الحقيقة الإلهية ووحدانية الخالق، لم تكن في أي وقت محل شك لدى الرجل. لكنه أراد أن يثبت حقه في البحث عن اليقين، من خلال البحث والتمحيص والبرهان، وليس العناد ولا المكابرة. والرجل الذي لم ينقطع يوما عن إقامة الصلاة إنما أراد أن «يبدأ الرحلة من أول السطر»، وأن يأخذ حقه من التفكير.

عاش مصطفى محمود باحثًا عن الحقيقة، شجاعًا في الرجوع إلى الحق، لا يأنف أن يعلن عن خطئه، يتمثل بدستور عمر بن الخطاب: «لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل». وبلسان مصطفى محمود: «لا تؤخذ النفس بما فعلتْه وندمتْ عليه ورجعتْ عنه، ولا تؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته واستنكرته، فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته وجوهريته، ويدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها». فعندما عرض عليه الرئيس السادات أن يعيد طبع كتاب (الله والإنسان) طلب منه مصطفى محمود بدلاً من ذلك طبع كتاب (حوار مع صديقي الملحد)، وصديقه هذا هو الجيل الصاعد من الشباب الذي اهتزت هويته أو انفصل عن جذوره الإسلامية. ولينضم الرجل إلى قاطرة الذين اشتهر منهم محمد جلال كشك ومحمد عمارة وعادل حسين.
وقد ترك الدكتور مصطفى محمود وصية شرعية لأهله تمنعهم من إخراج أي نسخة من كتابه «الله والإنسان».

}فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم{ (البقرة: 181).
ألا ما أروع مقالته: «انتصاراتي‏ ‏علي‏ ‏نفسي‏ ‏هي‏ ‏أهم‏ ‏انتصارات‏ ‏في‏ ‏حياتي»، فصدق فيه قول

القائل:
لما عفوت ولم أحقد على أحد


أرحت نفسي من هم العداوات.


مصطفى محمود - الذي لم يحقد على أحد- دفع ثمنًا غاليًا لنشره مقالتين بعنوان: «هتلر والنازية» و«الخروج من مستنقع الاشتراكية». لكن الذين منعوا مصطفى محمود قسرًا من الكتابة والنشر كانوا أصحاب فضل علينا؛ لأنهم منحوه فرصة التفرغ لكتابة «الإسلام والماركسية» و«الإنسان والظل» و«الزلزال» و»الإسكندر الأكبر».



مسيرة طويلة نحو الأسرار الكبرى

لا يكفي أن ننقل عن فلان أنه قال كذا، ولكن من الضروري أن نعلم متى قاله، وفي أي سياق قاله، وما موضع ذلك القول في مسيرة حياته. وفي تقديري أن أخريات ما يكتبه الكاتب هي الأجدر بأن تُنقل وتُروى عنه، مع ضرورة الاحتراس البالغ من أسلوب «ولاتقربوا الصلاة».
ومن أحب المقاطع التي أقتبسها عن مصطفى محمود هي سؤاله: «سألت نفسي عن أسعد لحظة عشتُها.. ومر بخاطري شريط طويل من المشاهد.. لحظة رأيت أول قصة تنشر لي، ولحظة تخرجت في كلية الطب، ولحظة حصلت على جائزة الدولة في الأدب.. ونشوة الحب الأول والسفر الأول.. والخروج إلى العالم الكبير متجولاً بين ربوع غابات إفريقيا العذراء، وطائرًا إلى ألمانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.. ولحظة قبضت أول ألف جنيه.. ولحظة وضعت أول لبنة في المركز الإسلامي بالدقي.. استعرضت كل هذه المشاهد، وقلت في سري: لا. ليست هذه.. بل هي لحظة أخرى ذات مساء من عشرين عامًا، اختلط فيها الفرح بالدمع بالشك بالبهجة بالحبور، حينما سجدت لله فشعرت أن كل شيء في بدني يسجد.. قلبي يسجد.. عظامي تسجد.. أحشائي تسجد.. عقلي يسجد.. ضميري يسجد.. روحي تسجد... أحسست وأنا أسجد أني أعود إلى وطني الحقيقي الذي جئت منه، وأدركت هويتي وانتسابي». (السؤال الحائر ص4).






تصويب المفهومات

لذوي التدين الصوري، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال مصطفى محمود: إن الدين هو «الأمانة والاستقامة، والصلاح والعمل النافع، وطهارة اليد ونقاء الضمير، والزهد في الدنيا وتقوى الله، والعمل للآخرة‏».
واستمر موضحًا: «لا بد من الاعتراف بأننا نحن المسلمين أخفقنا في الدعوة إلى ديننا، وأننا لم نبلغ الإسلام بقيمه الرفيعة وقيمه السامية إلى العالم» (علم نفس قرآني جديد، 161) ويشرح قليلاً: «السنة هي أن نتأسى بالنبي في كل هذا: في كرمه وحلمه ووداعته وصبره وشجاعته وطهارته وطاعته لربه وبره بأهله وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة والتزامه بالتقوى والورع في كل تصرف» (ص164) وبنظرة أعمق: «خطيئتنا الكبرى -وقد أحاطتنا المحن من كل جانب، واجتمع علينا الأعداء- أننا لم نلتق على كلمة سواء، ولم نتحد على موقف، وقد فقدنا الإحساس بالأمة، وفقدنا روح الجماعة».

ثم ينصح لكل أحد: «اسأل نفسك.. هل تنام كل يوم على مودة وحب ورغبة في الخير ونية في عمل صالح؟ أم على غل وكراهية وحسد وتربص؟.. وستعلم إلى أي مدى أنت على دين الإسلام» (سواح في دنيا الله، ص9) وأيضًا (الإسلام في خندق، ص9).
شرَح الرجل وشرَّح أعراض الحب الزائف، ففضح أقاويل عبدالله بن سبأ، وهتك غلو بعض الشيعة وفرقها، وفضح «كيد الكائدين من مختلف الملل التي غلبها الإسلام وأزاحها وكسر سلاحها وحطم عروشها، فعادت بدورها تغزوه بأفكارها»(حقيقة البهائية ص7-8) ولم يسكت عن هلاوس الميرزا علي محمد (الباب)، ولا عن تفسيره المخترع للأحد عشر كوكبًا في سورة يوسف. مثلما فضح فرية نسخ الشريعة المحمدية، ومؤامرة (دمج الأديان) وخلع حجاب المؤمنات (ص18-19). ولم ينخدع مصطفى محمود بادعاءاتهم نشر (ثقافة السلام) وهم أنفسهم مشعلو الحروب، ولم ينقطع دابرهم بإعدام (الباب) الذي قال عن كتابه (البيان) إنه أفصح من القرآن، وناسخ لأحكامه (ص29) وقد تطورت اللعبة حتى خرجوا علينا بما أسموه (الأقدس) ثم (الفرقان الحق) فلم يستروا ذهبهم ولا مذهبهم، بل قالوا: يمكنك أن تكون بهائيًا مسيحيًا أو بهائيًا ماسونيًا أو بهائيًا يهوديًا أو بهائيًا مسلمًا (ص57). ثم فضح دخائل القاديانية حليفة البهائية الذين أبطلوا الجهاد، ودعوا بالنصر للملك جورج عاهل إنجلترا !!. لقد أدى مصطفى محمود أمانة العلم، وبقي علينا أن نتعلم ونعلم.






اقرأ وربك الأكرم


لأن الواعظ الجاهل هو محام فاشل في قضية عادلة، فقد راح واعظ القرية يرشد الناس إلى وسيلة للتخلص من حشرات المنزل، لكنه - بدلاً من أن يغرس فيهم الروح العلمية كما جاء بها القرآن- جعل يسوّق بضاعة فاسدة، فاكتفى بأن يسرد عليهم كلمات، توهّم أنها إذا كُتبت وعُلقت في الدار طردت الحشرات. ولكن أثبتت التجربة العملية أن هذا كله خطأ بل دجل وأوهام. وكان لابد من أن يواجه هذا المسلك شخص ما، ولم يكن هذا الشخص سوى الفتى مصطفى محمود. فأين هؤلاء الوعاظ المساكين من البيروني وابن الهيثم وابن حيان وابن النفيس والخوارزمي؟ بل أين موضع أولئك العباقرة في مناهجنا التربوية؟

تقول زوجته السابقة: «كان يتمنى أن نتزوج في مكة المكرمة حتى يُضفي المكان بُعده الإيماني على زواجنا.. لكن الظروف حالت دون ذلك، فتزوجنا في المسجد النبوى. قبل الزواج قمنا بأداء العمرة... تزوجنا بمنطق العقل، وكان هناك هدف يجمعنا، بدأناه بتأسيس جمعية محمود الخيرية الإسلامية التي افتتحناها معا في عام 82.. كان مهري خمسة آلاف جنيه، تبرعتُ بها للجمعية... كنا نسكن أعلى الجامع، في مكان عبارة عن حجرة بحمام وصالة صغيرة... علّمنى كيف تكون الحياة وكيف يفني الإنسان حياته من أجل هدف نبيل».
وأما عن تصحيح المفهوم السائد عن الإصلاح فقال مصطفى محمود إن «تلخيص عملية الإصلاح في مسمى واحد هو «رفع دخل الفرد» هو تلخيص مخل للمشكلة الاجتماعية ولحقيقة الإنسان، فالمطلوب هو الارتفاع بالإنسان كله، وليس مجرد محتويات جيبه... الدين والعلم والفن والفكر تلازموا وترافقوا كإخوة بطول حركة التاريخ الإسلامي».


ولسماسرة الأفكار يقول معلّمًا: «كيف يتأتّى لعاقل في مثل هذه الظروف أن يقول بتهميش الدين وتهميش التعليم الديني؟! وما يسميه البعض بتجفيف الينابيع (أي تجفيف كل مصادر التزود بالعلوم الدينية) وهو مطلب لا ينادي به إلا عدو لدود يريد بنا الهلاك والدمار».
ثم يصل إلى الصخرة التي ارتدت عنها أمواج التنصير والاستعمار، فيقول: «أرجو أن يعود الأزهر إلى كامل تخصصه الديني، وأن يكفّ المشرفون فيه عن اختصار مقرراته، وتقليص مساحة القرآن فيه - تحت زعم التخفيف عن الطالب- ثم إنكار ما يحدث، ونشر البيان تلو البيان بأن كل شيء على مايرام»..ويسأل معبّرًا عن حيرتنا جميعًا: «إذا كان الأزهر سوف تقتصر الدراسة فيه على الملخصات والمختصرات.. فأين يجد طالب المعرفة العلم المستوفى والمعارف الجامعة؟».
وأما سماسرة الثقافة والسياسة فقال لهم: «إن القول بأن السلام خيار استراتيجي لا يعني أبدًا أن الاستسلام أصبح الخيار الاستراتيجي. ولا أحب أن يختلط هذا على فهم الآخرين، فتصل إلى أفهامهم الرسالة الخطأ، فالسلام شيء غير الاستسلام». وماذا أستفيد من جار لا يأتيني منه سوى المخدرات والدولارات المزيفة والجواسيس والتآمر حول منابع النيل؟..ويتسع الأفق بنا وبه فيوضح بديهية من بديهيات العقلاء مفادها: لو أن تركيا وجهت خنجرها في صدر الإسلام وفي قلب العرب، فلن تكافأ بدخول الاتحاد الأوربي.

وفي زمن تجرأت فيه شياطين الإنس على الإسلام يعلمنا مصطفى محمود أن القرآن هو وحي الله الذي يتسق -دون غيره- مع حقائق العلم، فمثلاً لا يحتاج من يريد إثبات التحريف والتغيير والتبديل في التوراة إلى أدلة من خارج التوراة؛ فالتوراة ذاتها تعطيه المفتاح، وتعطيه الأدلة على تحريفها.. والشك في أسفار التوراة قديم ومعترف به من طوائف الملة المسيحية أنفسهم (كتابه: التوراة ص95و96) وأما قول من قالوا إن «القرآن مطلق والعلم نسبي، والمطلق لا يرتبط بالنسبي»، فهو كلام لا يراد به سوى الباطل؛ ففي العلم ثوابت وحقائق راسخة، وهذه الحقائق هي التي نبتغيها حين نحاول أن نفهم القرآن في ضوء العلم، وحين نحاول أن نكشف عن جوانب الإعجاز العلمي في القرآن، كلام الخالق منزل القرآن ومبدع الأكوان. وإن الآيات الكونية في القرآن يتجدد فهمنا إياها مع الفتوحات العلمية التي ينعم الله بها على الخلق كل حين. وهذا مصداق قول الحق:
}سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد{ (فصلت: 53).
وأما من زعم أن مراد الله من كتابه لا يُلتمس إلا في كتب التفاسير، فقد ضيّق واسعًا، وناقض حكمة الله في بقاء القرآن معجزة حية متجددة أبد الدهر. الذين يرفضون الكشف عن الإعجاز العلمي للوحي إما جاهلون أو أنهم المشار إليهم في قول الحق
}ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير{ (البقرة: 109).


التربية والإعلام

قبل ثلاثين عامًا تنبه مصطفى محمود إلى تأثيرات التليفزيون في المجتمع، فقال: «لو وقف مصلح اجتماعي يطالب بوقف هذه البرامج اللاهية، وتحويل البرامج التليفزيونية إلى نوع من الجامعة الشعبية، وتحويل الإعلام الاستمتاعي إلى إعلام تربوي.. مثل هذا المصلح سوف يواجَه بالطوب ومظاهرات الاحتجاج من الجمهور نفسه.. جمهور الأغاني والقبلات والمسلسلات والرعب والدم والجنس و(الكورة)...هذا الجهاز بسبيله إلى إحداث تحولات في الوعي الإنساني، ستكون للأسف بالسلب وليس بالإيجاب»
ويعقب كأنما يرد على المجادل: «صحيح أن التليفزيون يعرض بالفعل فنونًا رفيعة وأفكارًا عالية، وهو يقدم الدين والقيم والعظات والعبر إلى جانب الجريمة والجنس والانحلال.. لكن الفساد يأتي فيه مزوقًا جذابًا وهو يغازل النفس بمشتهياتها، ويروادها في ضعفها، وهو يقدم لها وعدًا عاجلاً باللذة.. فما تلبث اللحظة الفاسدة أن تجرف أمامها كل المؤثرات الطيبة». أيها التربويون أنصتوا: «التليفزيون يمكن أن يكون جامعة، ويمكن أن يكون كباريه» فماذا اخترتم لأنفسكم ولأحفادكم؟
ثم يخاطب صناع الرأي: «يا مؤلفون ويا كتاب السيناريو ويا منتجون: أبدعوا أشياء من بيئاتكم ومن تاريخكم ومن عقائدكم وأحلامكم. انبذوا هذا العَلَف المسموم».. «نريد أن نرى بلدنا وهويتنا في برامجنا وتليفزيوننا». ما أروع الحياة بسلام، ولكن قولوا لنا: من جلب الترسانة النووية إلى منطقتنا؟ ومن قتل يحيى المشد وسميرة موسى والكونت برنادوت؟ ما أجمل ثقافة السلام، ولكن أطفالنا يسألوننا: من فجر طائرة البوينج المصرية بركابها؟ ومن يسلب الأراضي كل صباح؟ ومن يطور أسلحة الدمار كل يوم؟ ومن صنع نصبًا تذكاريًا لقاتل الساجدين في الحرم الإبراهيمي؟ وماذا يجري هنالك عند منابع النيل؟
وقد رصد مصطفى محمود برهافة الأديب أن الاستعمار اللغوي قد أبى إلا أن يبيض ويفرخ في أرض العرب المعاصرين. ولكنه لا يرى من عاصم من الهزيمة اللغوية سوى الإسلام. «الإسلام هو الذي حفظ هوية المنطقة.. وهو الذي مازال يضبط النطق العربي» (سواح في دنيا الله، ص33).


خاتمة التوفيق

قطع الرجل شوطًا بعيدًا، وتوقف طويلاً أمام قول الحق}قد أفلح من زكاها{ (الشمس: 9).
وقوله}ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير{ (فاطر: 18).
فقال معلمًا: «لا سبيل إلى تطهير النفس وتزكيتها إلا بإتقان العبادة والتزام الطاعات، وإطالة السجود وفعل الصالحات. وبحكم رتبة العبودية يصبح الإنسان مستحقًا للمدد من ربه، فيمده الله بنوره ويهيئ له أسباب الخروج من ظلمته. وذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد الله، بالتخلية (تخلية النفس من الصفات المذمومة)، ثم التحلية (تحلية القلب بالذكر والفضائل) والتعلق والتخلق والتحقق».

ثم يمضي شارحًا: «والتعلق عندهم هو التعلق بالله وترك التعلق بما سواه. والتخلق هو محاولة التحلي بأسمائه الحسنى، الرحيم والكريم والودود والرءوف والحليم والصبور والشكور.. قولاً وفعلاً.
والتحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء واللطف والمشاكلة، فتصبح نورانيا في طباعك أو تكاد». ويختم مقررًا: «ولا سبيل إلى صعود هذا المعراج إلا بالعبادة والطاعة والعمل الصالح، والتزام المنهج القرآني والسلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات الله وسلامه».
ربما يوصف مصطفى محمود بأنه متصوف، لا بأس. لكنه المتصوف الذي يقرأ ويحلل كتبًا من مثل «علاقات خطرة»، الكتاب الذي يصف كواليس المخابرات ودورها في تحريك الأحجار على رقعة الشطرنج. متصوف لا بأس، لكنه يحلل كيف أقام العدو مستوطناته فوق خزانات المياه الجوفية في أراضينا، وينبه الغافلين إلى حرب المياه التي تستهدفنا نحن دون سوانا.


بعض الجهات تروج لنمط من التصوف يمجّد السلبية والانسحاب من الحياة العامة وربما (البلاهة)، لكن مصطفى محمود كان دومًا هناك، يتابع ويحقق ويدقق ويسجل وينصح. فبعد مؤتمر السكان بالقاهرة قال: «المطلوب عمار الأرض الخراب بالسكان، وليس بتحديد المواليد». ثم هو يعلّم الجاهلين عواقب الانصياع لشروط موردي القمح، فيقول: «أما بول أرليتش من جامعة ستانفورد بأمريكا فيقترح خلط القمح الذي يصدر إلى البلاد النامية بعقاقير منع الحمل.. وكأنما أصبحت البلاد النامية في نظره مزرعة دواجن أو حظيرة خنازير» (الغد المشتعل، ص66).


وبشكل عملي مارس مصطفى محمود أسلوبه في التدين، بأسلوب علمي، ودونما ضجيج، فقد نفذت جمعية مسجد محمود مشروعات، منها مشروع القرض الحسن الدوار، وهو أسلوب يقوم على أن القرض المسترد تحصل عليه عائلة أخرى، وهكذا بشكل دوري.
ومشروع الاستفادة من المخلفات الزراعية، لتوليد الطاقة، وتصنيع العلف الحيواني، ولتجنب التلوث، ولتجنب إهدار الثروة، ولتشغيل العاطلين. ومشروع مزارع الأسماك في مناطق الواحات. ومشروع بنك الطعام للمساكين والمساجين.

الرجل الذي لم يتحدث قط عن شرف انتسابه إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان من المتوقع منه أن يرفض منصب المستشار أو الوزير، عندما عرضه عليه الرئيس السادات. ومن باب أولى أن يرفض مناصب من قبيل رئاسة مجلس إدارة واحدة من المؤسسات الصحفية الحكومية، فاكتفى بلقاء شهري مع الرئيس للتفكر في أحوال الأمة. لم يفكر في أن يستغل اقترابه من الرئيس في شراء شركات الدولة، ولا في الحصول على أموال البنوك، ولا في تخصيص الأراضي له ولأسرته. ولم يكن لديه وقت ليدفع عن نفسه سفاهة السفهاء، الذين أشاعوا - قاتلهم الله - أن الرجل كان يتصل بالجان، أو أنه نزيل بمستشفى المجانين، أو أنه اعتنق النصرانية!!! كان هدف البغاة أن يصدوا الشباب عن قراءة «...لغة المحرقة» و«...البداية والنهاية» و«المؤامرة الكبرى» و«التوراة» و«حقيقة البهائية».

وبعيدًا عن صخب الحياة وضجيج الإعلام، فارق مصطفى محمود عالم الزيف والأشباح إلى عالم الحق والأرواح، في 31 أكتوبر 2009. تجاهلته منابر كثيرة، بعدما فضحهم أجمعين بضربة واحدة: «لا هُم تقدميون، ولا علميون، ولا موضوعيون»، فأثاروا حوله غبار المشاغبات الفارغة؛ ليصرفوا الناس عن التفاعل مع ما كتبه عن «طاعون العصر ودولة الإرهاب». لكن يبقى لنا ما خطه القلم نقشًا في القلب، ويبقى لنا مجمّع محمود الخيري، لسانَ صدقٍ، وعملاً صالحًا، وصدقةً جارية. فأما الزَّبَد فيذهب جُفاء، وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض.


المراجع :


ويكيبديا .

الأعمال الكاملة لـمصطفى محمود.
لقاء زوُجته مع جريدة الغد.
مصطفى محمود في سطور.
أعلام الفكر العربي
خارطة الطريق .



شُكراً
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق