الجمعة، 21 سبتمبر 2012

نازلاً كُنت



نازلاً كنت : على سلم أحزان الهزيمة

نازلاً .. يمتصني موت بطيء

صارخاً في وجه أحزاني القديمة :

أحرقيني ! أحرقيني .. لأضيء !

لم أكن وحدي ،

ووحدي كنت ، في العتمة وحدي

راكعاً .. أبكي ، أصلي ، أتطهر

جبهتي قطعة شمع فوق زندي

وفمي .. ناي مكسّر ..

كان صدري ردهة ،

كانت ملايين مئه

سجداً في ردهتي ..

كانت عيوناً مطفأه !

واستوى المارق والقديس

في الجرح الجديد

واستوى المارق والقديس

في العار الجديد

واستوى المارق والقديس

يا أرض .. فميدي

واغفري لي ، نازلاً يمتصني الموت البطيء

واغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي :

أحرقيني .. أحرقيني لأضيء

نازلاً كنت ،

وكان الحزن مرساتي الوحيدة

يوم ناديت من الشط البعيد

يوم ضمدت جبيني بقصيدة

عن مزاميري وأسواق العبيد

من تكونين ؟

أأختاً نسيتها

ليلة الهجرة أمي ، في السرير

ثم باعوها لريح ، حملتها

عبر باب الليل .. للمنفى الكبير ؟

من تكونين ؟

أجيبيني .. أجيبي !

أي أخت ، بين آلاف السبايا

عرفت وجهي ، ونادت : يا حبيبي !

فتلقتها يدايا ؟

أغمضي عينيك من عار الهزيمة

أغمضى عينيك .. وابكي ، واحضنيني

ودعيني أشرب الدمع .. دعيني

يبست حنجرتي ريح الهزيمة

وكأنا منذ عشرين التقينا

وكأنا ما افترقنا

وكأنا ما احترقنا

شبك الحب يديه بيدينا ..

وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير

عن أغانينا لفجر في الزمن

وانحسار الليل عن وجه الوطن

وتحدثنا عن الكوخ الصغير

بين احراج الجبل ..

وستأتين بطفلة

ونسميها " طلل "

وستأتيني بدوريّ وفلـّه

وبديوان غزل !

قلت لي - أذكر -

من أي قرار

صوتك مشحون حزناً وغضب

قلت يا حبي ، من زحف التتار

وانكسارات العرب !

قلت لي : في أي أرض حجرية

بذرتك الريح من عشرين عام

قلت : في ظل دواليك السبيه

وعلى أنقاض أبراج الحمام !

قلت : في صوتك نار وثنية

قلت : حتى تلد الريح الغمام

جعلوا جرحي دواة ، ولذا

فأنا أكتب شعري بشظية

وأغني للسلام !

وبكينا

مثل طفلين غريبين ، بكينا

الحمام الزاجل الناطر في الأقفاص ، يبكي ..

والحمام الزاجل العائد في الأقفاص

... يبكي

ارفعي عينيك !

أحزان الهزيمة

غيمه تنثرها هبة الريح

ارفعي عينيك ، فالأم الرحيمة

لم تزل تنجب ، والأفق فسيح

ارفعي عينيك ،

من عشرين عام

وأنا أرسم عينيك ، على جدران سجني

وإذا حال الظلام

بين عيني وعينيك ،

على جدران سجني

يتراءى وجهك المعبود

في وهمي ،

فأبكي .. وأغني

نحن يا غاليتي من واديين

كل واد يتبناه شبح

فتعالي . . لنحيل الشبحين

غيمه يشربها قوس قزح !

وسآتيك بطفلة

ونسميها " طلل "

وسآتيك بدوريّ وفلـّه

وبديوان غزل !


-

سميّح القاسم

تخُلى عن عشَرة لتمضي ..




هنُاك بذّر مقالات عالمية أو أخرى عن واقع تجُربة ، فالأبحار في علوم الأخرين وثقافتهَم وطرق تعايشهم وتفكيرَهم .. دعوة للتأمل في حياة الأخرين
كعادّتي شغوف في النظر إلى مختلف أنواع الحياة .
وأنا مُطرقاً أبحث عن أشياء تشد إنتباهِي
وجدُت مدونة جميلة أسمها مارك وأنجل ، وهماَ شاب وفتاة ، أو أصدقاء أو عّشاق
ولكنهم تميزواَ بالأبداع ومحُبة الناس لهم فهمّ حقًا مساهمين ويطورون كل من تَنظر عيُنه إليهم . أو شد ّ إنتباهم ..
من بين تلك المقالات الأنجليزية التي قرأتها وشدُتني هذه المقالة الجميلة .
والتي تتحدث حول التراكم عندما تبدأ الأفكار تنفذ منك ، وليس هناك أي شيء تُكتبه ..
يقوَل كل من مارك وأنجل :



أشياء تتخّلى عنها لتمضي قدُماً 13476987351.jpg


لكي تسير بسرعة في الحياة، يجب عليك أن تضع عنك الأثقال والأوزار التي تثقل ظهرك

وتبطيء من مشيك، ومن ضمنها:




1 – أن تدع آراء الآخرين تتحكم في حياتك

يعلم الناس اسمك، لا قصة حياتك، وهم سمعوا بما فعلت، لا بما مررت به، ولذا تقبل آراء الناس فيك بشيء من الحكمة وسعة الصدر، لكن لا تتركها تؤثر فيك بقوة. في النهاية، ما يهم هو رأيك في نفسك لا رأي الناس فيك، ففي بعض المواقف سيكون لزاما عليك أن تفعل الأفضل لنفسك ولحياتك، وليس الأفضل والأنسب للجميع.




2 – الخجل من الاخفاقات السابقة

ستفشل وتخفق في حياتك وهذا عادي ومقبول، وكلما أسرعت بقبول ذلك وتقبلته، كلما عدت بسرعة لحياتك وللتألق فيها. الماضي لا يساوي المستقبل، ولا يعني فشلك بالأمس أو اليوم أو على مر سنوات مضت، كل هذا لا يعني بالضرورة أنك ستفشل في مستقبلك. كل ما يهم هو ما الذي ستفعله الآن.




3 – عدم تحديد ما الذي تريده بدقة ووضوح

لن تخرج مما أنت فيه حتى تقرر إلى أين تريد الذهاب، والأمر كله معقود بك أن تعثر على شغفك وتطارده بقوة لتحقيقه. تجاهلك لشغفك (أو أن تجهل معنى كلمة شغف في اللغة العربية!) يعوق مسيرتك نحو الإبداع، فعندما تكون شغوفا بشيء فأنت تكون أكثر طاقة وحيوية، وبالعكس، حين لا تكون شغوفا بما تفعله فلن تجد الطاقة أو الحيوية لتفعل ما تفعله. الطاقة هي كل شيء حين تريد النجاح، ولذا قرر أن تعثر على إجابة شافية للسؤال: ما الذي تريده في هذه الحياة، ثم انطلق بكل شغف لتحقيقه وتنفيذه.




4 – تأجيل أهدافك الأكثر أهمية لك

في هذه الحياة، هناك اختياران فقط نختار أحدهما وهما: إما أن نقبل أوضاعنا كما هي، أو أن نقبل حقيقة أنها مسؤوليتنا كي نغير هذه الأوضاع. اتبع إحساسك الداخلي، ولا تيأس من محاولتك لتنفيذ ما تريد فعله. أينما كان الحب والإلهام فلن تقع في الخطأ. مهما كان هذا الذي تريد فعله، افعله الآن. هناك أيام كثيرة تنتظرك في الغد، لكنك بعد عام من الآن، ستتمنى لو كنت بدأت الآن.




5 – أن تختار ألا تفعل أي شيء

أنت لست مخولا كي تختار كيف ستموت أو أين (ذوو الميول الانتحارية يمتنعون!) في حين يمكنك أن تختار كيف ستعيش الآن. كل يوم هو فرصة جديدة كي تختار، ولذا اختر أن تغير نظرتك لما حولك. اختر أن تغير وضعية المفتاح في عقلك من السلبية إلى الايجابية. اختر أن تدير مفتاح النور لتضيء ما حولك وتتوقف عن الشكوى والقلق من عدم الأمان ومن الشكوك. اختر أن تفعل ما يجعلك تفخر أنك من فعله. اختر أن ترى أفضل ما في الآخرين (وتتغاضى عن الباقي) واختر أن تجعل الآخرين يرون أفضل ما فيك. اختر أن تعيش، الآن.

 

6 – حاجتك لأن تكون على صواب

إذا داومت على قول أنا على حق، حتى ولو كنت كذلك الآن، فسيأتي عليك وقت تكون فيه على خطأ. صوب نحو النجاح، لكن لا تتخل عن حقك في أن تكون على خطأ، لأنك إن فعلت ذلك، ستفقد قدرتك على تعلم أشياء جديدة وأن تمضي قدما في حياتك.




7 – الهروب من مواجهة مشاكل عليك حلها

نحن نعقد حياتنا ونجعلها أصعب بدون داع لذلك. التعقيد نبع حين بدأت الكلمات تفقد معانيها، فالحوار أصبح الآن عبر تويتر أو فيسبوك، والحب أصبح صفقة تذهب لأعلى سعر، والمشاعر أصبحت ذات أهمية أقل، والشعور بعدم الأمان أصبح مرادفا للحياة العصرية، والحسد أصبح شعورا طبيعيا، حتى أصبح الهروب من مواجهة المشاكل الحل الأسلم والآمن. توقف عن الجري والهرب، واجه هذه المشاكل واعثر لها على حل جذري، ارجع للتواصل الطبيعي مع الناس، تعلم تقدير الأشياء الصغير، سامح وعد لحب الناس في حياتك الذين يستحقون ذلك.




8 – التحجج بأعذار بدلا من اتخاذ قرارات

الحياة سيل لا ينقطع من المشاكل المبدعة التي تبحث عن حل. لا يتحول الخطأ إلى فشل إلا حين ترفض تصويبه، ولهذا فالاخفاقات طويلة الأجل ما هي إلا نتاج أناس اختاروا المجيء بأعذار بدلا من أن يتخذوا قرارات صحيحة.




9 – تجاهل النقاط الايجابية في حياتك

ما تراه يتوقف عادة على ما تبحث عنه. عندما تصر على الشعور بالندم لأنك ترى أنك لم تحصل على ما تستحقه في حياتك، فما ستحصل عليه ساعتها هو أنه سيفوتك ملاحظة جمال ما لديك، بل وستجد صعوبة في الشعور بالسعادة إذا لم تكن شاكرا لكل الأشياء الجيدة في حياتك الآن.




10 – عدم تقدير اللحظة الحالية

نحن لا نتذكر الأيام بل اللحظات. كثيرا ما نحاول تحقيق أشياء عظيمة في حياتنا، دون أن ندرك أن تلك الأشياء تتكون من أشياء صغيرة مجتمعة معا. عش مقدرا لكل لحظة تعيشها، وتمتع بالرحلة حتى تبلغ مقصدك.




.
تَم


شُكراً

 

عالم مُختلف



مالم يتوقعه أحد هو أن ينتهي زمن البريد الإلكتروني الذي نعتبره أحد المسلمات الحياتية، كالسيارة والطائرة والكمبيوتر وغيرها. فقبل عام أطلق (تيري بروتون) رئيس شركة (أتوس) الفرنسية المتخصصة في تقنية المعلومات، مبادرة قال فيها إن شركته ستكون خالية من البريد الإلكتروني تمامًا خلال ثلاث سنوات.
وذلك لأن البريد الإلكتروني، حسب قوله، هو من أكثر الأشياء التي تضيع وقت الموظفين. وبسبب تطور التقنية، سيصبح ما يعرف اليوم بـ «طوفان المعلومات» أحد أخطر التحديات التي تواجه الشركات في السنوات القادمة، وخصوصًا إذا علمنا بأن 30% من الرسائل البريدية التي نستلمها كل يوم تُصنّف كرسائل (مُزعِجة).

الغريب في الأمر أن بروتون دعا موظفيه لاستخدام الشبكات الاجتماعية، كتويتر وفيسبوك، للتواصل عوضًا عن البريد الإلكتروني؛ ففي تلك الشبكات يكون عدد الرسائل التي يتلقاها أو يرسلها الموظف أقل بكثير عن البريد الإلكتروني.
وقد يتساءل أحدنا: أليس في ذلك مضيعة لوقت الموظفين الذين قد يستخدمون هذه الشبكات لأغراض التسلية؟ نعم، ولكن التواصل على هذه الشبكات يدفع مستخدميها للاختصار في الكتابة، كما أنه يقلل إلى حد كبير من رسائل الدعايات والعروض التسويقية التي تشتت انتباه الموظف. وعلى رغم كثرة المعلومات التي يتلقاها المرء على هذه الشبكات، إلا أنه يمكن للمستخدم أن يحدّ من حجمها، بل ويختار نوعية المعلومات التي تهمه، وهو شيء غير متوفر في البريد الإلكتروني.

لو قارن أحدنا بين الرسائل التي يرسلها بالبريد الإلكتروني والرسائل التي يرسلها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي فسيجد أن حجم الرسائل الأخيرة يقل كثيرًا عن الأولى، وهي كذلك مختصرة ومقتضبة. اسأل نفسك: متى كانت آخر مرة أرسلتَ فيها صورة أو مقطع فيديو إلى بريد أحدهم؟ وإلى أي مدى تعتمد على برامج التواصل الاجتماعي الموجودة في هاتفك، كبرنامج (الماسنجر) في البلاك بيري، أو (واتس آب) في الآي فون، في التواصل مع الناس مقارنة بالبريد الإلكتروني؟

ليس هذا فقط، ولكن عصر الأفلام الطويلة قد يشارف على الانتهاء أيضًا مع تسيّد يوتيوب ساحة الفيديو، فلقد بدأت ظاهرة الأفلام القصيرة؛ التي لا تتجاوز نصف ساعة كحد أقصى، تنتشر بسرعة على يوتيوب وفيميو، وحسب يوتيوب فإن أكثر مقاطع الفيديو مشاهدة هي التي لا تتجاوز مدتها أربع دقائق!
أما بالنسبة للقراءة على الإنترنت فإن الناس تفضل قراءة المقاطع القصيرة جدًا. ففي دراسة قام بها جيكوب نيلسون، المستشار في الدراسات المتخصصة في الإنترنت، وجد أن الناس تقضي 4.4 ثوان لقراءة كل مئة كلمة. (وبما أن كلمات هذا المقال تبلغ 650 كلمة تقريبًا فمن المفترض أن قارئه سيقضي 28 ثانية فقط لقراءته). ولقد قال لي باولو كويلو مرة إن أغلب النصوص التي ينشرها على موقعه يمكن قراءتها في عشرين ثانية فقط؛ حيث إنه لم يعد لدى الناس جَلَدٌ على القراءة، وأذكر أنه قال: «الكتابة اليوم لقارئ الإنترنت تختلف عن الكتابة في الثمانينيات لقارئ الروايات».

كل هذه التغيرات تجعلني أتساءل: هل ندرك مدى تأثيرها على ثقافتنا وأفكارنا وهوياتنا؟ وهل حقًا نعلمُ أننا صرنا نبحث عن السرعة، وعن الاختصار، وصرنا في عجلة من أمرنا دون أن نعلم لماذا؟ وهل نعلم إن كنا سعداء بهذا الوقْعِ السريع والمقتضب لحياتنا؟ أم أننا نمارسه لأننا أصبحنا جزءًا من المنظومة العالمية التي تهرع لشراء وجبة من ماكدونالدز لأنها تعلم أنه لن يؤخر طلبها، وتسارع إلى شرب قهوة ستاربكس لأنها سريعة التحضير، وتدمن استخدام تويتر لأنه لا يعطي الآخرين فرصة «لازعاجنا» بحكاياتهم الإنسانية البسيطة التي قد تمتد لساعات على شاطئ البحر؟
لا أملك إجابات لهذه التساؤلات، ولكنني أعلمُ أن العالم لن يعود هادئًا ومشوقًا ومُبْهِرًا كما كان عندما فتحتُ أول بريد إلكتروني لي ، وكانت نظرات الأخرين ترمقني .. والمحزن أنني أضعته .


شكراً
 

من قُن الدجاج إلى الإبداع



يبدّأ خذلآن المرء .. حينما يفكر ولو لوّهلة باليأس
ويقرر أن يكف عن المحاولة والمواصلة .

Crow


,,

جاء دوره الابن العاشر من اثنى عشر إجمالا، لأب يبيع بيض الدجاج، في عام 1955 وفي أحد أحياء سنغافورة الفقيرة (وقتها)، ولما حل الفقر ضيفا ثقيلا، لم يدع لبطل قصتنا سيم ونج هوو Sim Wong Hoo سوى الخيال في صغره لينسج منه ألعابه، ولذا حين أهدته أخته هارمونيكا كانت الهدية المثلى، والتي جعلت من الموسيقى رفيق الدرب والحياة لهذا الصغير. كان سيم تلميذا عاديا بلا أي مزايا نحكي عنها، وحتى حين دخل الجامعة التقنية وحصل على دبلوم الهندسة في عام 1975 لم يظهر عليه أيا من علامات النبوغ التقليدية، وبعد تخرجه تنقل ما بين وظيفة مدرس إلى مهندس في شركة إلكترونيات يابانية وانتهاء بعامل على منصة بحرية لاستخراج النفط في جنوب بحر الصين.


دخل سيم عالم الحواسيب والكمبيوترات حين بدأ يقرأ في كتيبات الاستخدام بعمق، ليتعلم بنفسه كيف يبرمج برنامج بدائيا كي يعزف بعض الموسيقى البدائية على كمبيوتر تسنى له استخدامه وقته. (في نهاية السبعينيات، كانت الحواسيب صماء لا تصدر أي صوت). على أن طفولته الفقيرة علمته أن يخترع ألعابه وأدواته مما توفر له في بيئته، وأن تكون أحلامه هي نهاية حدود الممكن، ولهذا قرر ذات ليلة مقمرة على ظهر منصة الحفر أنه بحاجة إلى هدف وغاية في حياته، ولتأكيد قراره هذا، جعل هدفه وغايته أن يجمع مليون دولار خلال 5 أعوام من هذه اللحظة الحاسمة في حياته.
بعدها استقال من عمله على منصفة الحفر، اتفق مع رفيق صباه وصديقه المقرب كاي وا Ng Kai Wa لكي يفتتحا محل بيع وتصليح الحواسيب، برأسمال قدره 6 آلاف دولار، في سوق تجاري (مول اسمه Pearl’s Centre) في الحي الصيني من سنغافورة، وكان اسم المحل Creative Technology أو التقنية المبدعة. في البداية ساعدت فواتير البيع والإصلاح والتدريب على إدارة العجلة، الأمر الذي شجع سيم على تصميم دائرة إلكترونية يمكن إضافتها لذاكرة حواسيب ابل 2 الشهيرة وحققت مبيعات طيبة، ثم في عام 1984 بدأ سيم في تجميع وبيع كمبيوتر أسماه كيوب99 Cube 99 ثنائي المعالج ويشتمل على دائرة إلكترونية صوتية، ويعمل على نظامي تشغيل أبل و CP/M – لكن الاسم الفعلي له كان ’الكمبيوتر الناطق‘ لأنه احتوى على دائرة صوت جعلته يتحدث بالانجليزية والصينية.
بعدها في عام 1986 أتبعه سيم بكمبيوتر مكتبي أسماه: كيوبيكس أو Cubix CT وكان أشهر سماته احتوائه بدوره على بطاقة صوت، ونظام تشغيل باللغة الصينية يوفر الترجمة الآلية من وإلى الصينية والانجليزية. فشل هذا الكمبيوتر ولم يحقق المبيعات المتوقعة منه وكاد أن يفلس الشركة، خاصة وأن شرح كل مميزاته كان يستغرق ساعتين من الشرح المتواصل. رغم ذلك لاقت بطاقة الصوت هذه الإعجاب والاستحسان من الجميع، وكانت هذه البطاقة الظهور الأول لبطاقات الصوت التي اشتهرت فيما بعد تحت اسم ساوند بلاستر أو Sound Blaster.
كان لهذا الفشل محاسن كثيرة، إذ أنه جاء بمثابة الدش البارد، لينبه سيم إلى أن تركيزه على سنغافورة فقط خطأ كبير، وأن تركيزه على صنع حاسوب كامل ليس المجال الذي يملك فيه ميزة فريدة، وكل هذا شجع الشركة كي تركز على الشيء الفريد الذي تملكه، ألا وهو صنع معالج صوتي إلكتروني قادر على إعادة انتاج الصوت بجودة عالية جدا، وهو الأمر الذي سبقت فيه كل العالم. في عام 1987 جاء ميلاد بطاقة الصوت العاملة على حواسيب آي بي ام الأصلية والمتوافقة معها، ذات الاثنى عشر قناة صوتية، والتي حملت الاسم Creative Music System أو (C/MS) اختصارا.
أدرك سيم أن لديه منتج ناجح واعد مطلوب، لكنه كذلك أدرك أنه إذا أراد تحقيق النجاح الكبير الذي يريده، فعليه دخول السوق الأمريكية، ولهذا قرر في 1988 أن يسافر بنفسه إلى مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، بعدما أخبر الجميع أنه لن يعود إلى سنغافورة إلا بعد أن يربح مليون دولار من بيع 20 ألف بطاقة صوتية من إنتاج شركته. كان هذا الهدف صعبا، ففي هذا الوقت، كانت الحواسيب صامتة أو تطنطن بعض الضجيج الصوتي لا أكثر (أو بلغة أخرى، لم يكن هناك سوق فعلية لبطاقات الصوت لأجهزة الكمبيوتر).
أسس سيم شركة كريتيف لابز Creative Labs (أو المعامل المبدعة إن شئت) في أغسطس 1988 في أمريكا، وفي العام التالي بدأ في بيع بطاقات جيم بلاستر Game Blaster والتي تميزت بأنها توفر خرجا صوتيا ثنائي القنوات أو ستيريو، وهو الشيء الجديد وقتها، حتى أنه حين شاركت الشركة في معرض كومدكس لاس فيجاس 1989 وعرضت هذه البطاقة للجمهور، اصطف الحضور في طوابير طويلة لشراء هذه البطاقة العجيبة، وكان من ضمن الواقفين المغني الشهير مايكل جاكسون، الذي جذبته الجودة العالية للموسيقى الصادرة من جناح الشركة وعبر هذه البطاقة، كما وأقنع سيم العديد من مطوري ومبرمجي ألعاب الكمبيوتر كي يدعموا استخدام بطاقاته الصوتية في ألعابهم، وهو الأمر الذي عاد بنتائج إيجابية للغاية، كما أقنع شركة تاندي بشراء بطاقاته الصوتية وتركيبها على حواسيب تاندي. بعدها، عاد سيم إلى سنغافورة، فلقد حقق الهدف الذي سافر من أجله وزيادة، إذ بلغت مبيعات عام 1989 قرابة 5.5 مليون دولار. في عام 1994، بلغت الأرباح الاجمالية لشركته 650 مليون دولار.
رغم أنه اليوم من مليارديرات سنغافورة، لكن قصته لم تخلو من الخسائر، فالنجاح العريض الذي حققته بطاقات الصوت جعلت المئات من المقلدين يظهرون بسرعة وبسعر أقل، ما بدأ يقلص الأرباح، ولذا قرر سيم ألا يبقى معتمدا على منتج واحد، فدخل معترك تصنيع مشغلات أقراص الليزر / الأقراص المدمجة أو CD Rom لكن دخوله هذا جاء في وقت كانت أسعار هذه المشغلات تتراجع بسرعة كبيرة نتيجة زيادة العرض عن الطلب، وهو الأمر الذي كبد الشركة 100 مليون دولار خسائر في صورة مخزون بائر ما جعل سعر سهم الشركة في البورصة الأمريكية يخسر 75% من قيمته. الأمر ذاته تكرر مع بطاقات العرض / الفيديو / الجرافيكس وبطاقات الموديم وكاميرات الدردشة، والسماعات الصوتية، وفي خضم كل ذلك، قرر شركاء سيم التخارج من الشركة وتركوه وحيدا في قلب العاصفة.
هذه الاخفاقات المتتالية أظهرت أن الخوف من الاعتماد على منتج واحد ليس مبررا، إذ استمر اسم ساوند بلاستر مشهورا ومحققا للمبيعات رغم محاولات المقلدين، ووجد سيم في مشغلات الموسيقى ام بي3 المحمولة المنتج الذي يمكن له تكرار تجربته الناجحة معه، وأما اليوم، فالشركة تصمم وتصنع معالجات صوتية إلكترونية تعمل على متن الهواتف النقالة واللوحيات، وتركز كذلك على صناعة اللوحيات (تابلت).
بقية القصة معروفة، فلا زالت المعامل المبدعة مبدعة، ولا زال سيم من أغنياء سنغافورة وناجحيها، كما اشتهر أكثر حين ابتكر اسما لداء أسماه عدم العودة للخلف أو “No U-turn syndrome” وهو كناية عن أن رجال سنغافورة حين يصرون على شيء لا يتراجعون عنه ولو تسبب لهم في خسائر.
لكن ما يهمنا في قصته هو أنه في كل عثرة وفشل وخسارة، كانت تقبع في هدوء البذور والأساسات التي بنى عليها سيم نجاحه التالي. كذلك يجب الإشادة بالروح العنيدة (بشكل إيجابي) لسيم، فهو في البداية كان سائرا على خطى من قبله، موظف عادي ينتظر راتبه، أو صاحب متجر ينتظر البضاعة الرائجة كي يربح منها، لكنه قرر تغيير كل ذلك، وأن يبدأ نشاطه الخاص، ويصنع منتجه الخاص، الذي يسد نقص كبير في السوق، ويجعل حياة المستخدمين أفضل وأمتع.
كم منا يسير على خطى من قبله، وكم منا يشق طريقا لم يسر عليه أحد من قبل؟




،،
المصادر : ويكيبيديا
ومدوُنة شبابيك للتقنّية
والعلوم التكنولوجيَة

شُكراً

لغّتي



يظن الناس أن مفهوم الإبحار في لغات الأخرين وثقافتهم هي أمر محمود العواقب دائماً وهذا خطأ لأن الحياة تلزمك أن تتخلى عن طرف ثالث دائماً فالتشبث كثيراً بطرف يرخي الطرف الأخر ، أو يجعلك غارقاً في ثقافة الغير ويبعدك عن ثقافتك وأنت أهلُ لها و وطن وصاحب
وهذا هو الحاصل هُنا في بلادي كثيراً مانسى لغُتنا ونستخدم ألفاظ أو لغة أجنبية من بابَ التفَنن أو إلفات النظر ، أو حتى الإتقان .. أنجرفنا مع كل سيَل ومنحدر

اللغة كائن حي متغير متطور ما استمرت الحياة في مستخدميها، وقد شرف الله العرب بمزية لا يقدرها وللأسف البعض منهم، وهي أنه أنزل القرآن بلسانهم فتعلمت كثير من الشعوب اللغة العربية فأثرت فيها وتأثرت بها. والقرآن هو السبب الرئيس في كون كثير من الشعوب المسلمة تتكلم العربية اليوم. ولذلك فاللغة العربية هي الوعاء الأساس لكثير من الثقافات الإسلامية، ولعل أخرها ثقافة الدولة العثمانية التي كانت تكتب بحروف وكلمات عربية حتى وقت قريب. وكانت اللغة العربية في عصر النهضة الإسلامية هي اللغة السائدة Franca lingua في وضع أشبة بالإنجليزية اليوم. فاللغة العربية كنز ورثناه عن أجدادنا, وسيكون من العار علينا التفريط فيه, فضعف العربية اليوم ليس إلا انعكاسًا لضعف شعوبها.
ومن بين لغات العالم السائدة اليوم اللغة الإنجليزية، فقد نجح الإنجليز وبعدهم الأمريكيون من فرضها على الشعوب المستضعفة ثقافيًا واقتصاديًا كلغة للإعلام والسياسة والاقتصاد بالرغم من المقاومة العنيفة التي تجدها من الإسبانية والفرنسية والبرتغالية وغيرها. ويقدر علماء اللغة عدد الناطقين باللغة الإنجليزية في عام 1500م بأربعة ملايين فقط، وفي 1800م بثلاثين مليون، ويقد عدد المتكلمين بها اليوم بما يقارب المليار. وهي اللغة الرسمية في 60 بلدًا وشبه رسمية في 20 بلدًا، وهي لغة أفلام هوليود، والسي إن إن، ولغة الأعمال، ووكالات الأنباء الرئيسة. ويقابل عدد الشعوب التي تبنت الإنجليزية عدد مماثل للغات انقرضت أو هي في حالة شبه الانقراض لأن الإنجليزية حلت محلها، وقد انقرضت معها وللأسف ثقافاتها.

الكلام بلغة ما لا يعني التخاطب بها فقط، بل يعني كذلك تبني مخزونها الثقافي، وتبني تصورات مجتمعها وقيمه ومفاهيمه الأساسية للعالم والتاريخ. ولا يمكن أن تدخل لغة مجتمعًا ما دونما احتكاك وتلامس مع اللغة الأم لهذا المجتمع. فتعليم لغة أجنبية في مجتمع ما خطوة في غاية الأهمية والحساسية، ويجب أن يتواكب مع ترقية اللغة الأم بشكل يحل محل اللغة الأجنبية. ومكمن الخطورة هو أن تحظى اللغة الأجنبية بمكانة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أعلى من اللغة الأم. وغالبًا، وهنا مكمن الخطورة، فإن الإنجليزية تغزو المجتمعات المغلوبة بواسطة مفاهيم ترفيهية محببة أو علمية مهمة، ولذلك تكون لها لغة اختيارية مفضلة ترقى بمن ينطقون بها فتكون لها الغلبة في كثير من الأحيان على اللغة المحلية التي تقدم عبر مفاهيم قديمة وسياقات مملة لتمنع هذه المجتمعات من تبني التطور الذاتي وتفضيل استيراد التطور من الخارج اعتقادًا أن ما يرد من الخارج يمكن السيطرة عليه بشكل أكبر لأنه لا يلامس البنى الاجتماعية التقليدية.

وعندما تقحم اللغة الأجنبية، والإنجليزية خير مثل، بزخم قوي جدًا، كما حدث في كثير من البلدان نتيجة للانبهار بمكانتها الدولية، ويتحول المجتمع المحلي لمجتمع يعول كل التعويل على ثقافة اللغة المستوردة، فإن ذلك يعني ظهور ما يسمى «باللغة اللقيطة» Bastard Language نتيجة للتزاوج غير المنظور، وغير المتكافئ بين اللغتين في زيجة غير شرعية وغير متكافئة يتم من خلالها تلقيح اللغة المحلية بشكل عشوائي بتراكيب ومفردات أجنبية تزيدها ضعفًا وركاكة وتزيد اللغة الأجنبية بريقًا، وهكذا دواليك.

وأخطر ما يتصل بهذه القضية هو الانقطاع التدريجي عن الإرث الثقافي للمجتمع وتبني إرث اللغة الأجنبية على أنه هو الإرث العالمي للإنسانية والبشرية وليس إرثًا ثقافيًا لشعوب بعينها، وهو إرث العلم والفن واللهو، وهذا أمر في غاية الخطورة من حيث أنه يسري في جسد الأمة بتدريج غير محسوس واستدراج محبب للنفوس يجعل الثقافة تسري في جسد الأمة سريان المرض الثقافي بشكل غير منظور ولا تحس به. ولذلك فعلماء اللغة يرفضون مصطلح التغير اللغوي language change ويفضلون عليه مصطلح language drift والذي يعني الانجراف أو الانسياق اللغوي. فثقافة اللغة اللقيطة تتحول تدريجيًا لثقافة حائرة عاجزة في حالة تردد وانبهار دائمين فتزداد علة ومرضًا.

وفي أسوأ الأحوال يحدث انقطاع تام عن تراث الأمة وحالة من الاغتراب تتصادم فيها قيم الثقافة المستوردة مع القيم العنيدة الأصيلة التي تقاوم الزوال وتستعصي عليه. تلك القيم التي ينظر إليها القائمون على المجتمع على أنها المتاريس الأخيرة للدفاع عن تراثهم فيصاب النشء في هذه الثقافة بنوع من الانفصام الثقافي الذي يسبب له الكثير من القلق النفسي، ويجعله أكثر عرضة للتطرف الثقافي أو التمرد الاجتماعي. فهو يلقن نصوصًا جامدةً مملةً بلغته الأم، بينما يعلم نصوصًا حديثة معاصرة باللغة الأجنبية.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فهناك فريق من علماء الطب النفسي يرد كثيرًا من الأمراض العقلية لجذور لغوية، أي لعدم القدرة على التكيف اللغوي والمفاهيمي مع المجتمع المحيط على اعتبار أن لغة المجتمع هي الأداة الأساس للتواصل والتكيف الاجتماعي فيه. فاللغة أداة في غاية الخطورة، وهي كالأداة الحادة التي قد تقتل صاحبها إذا أساء استخدامها، لكن موتها بطيء وغير محسوس يرصده العارفون بأمور المجتمع واللغات.

وتعليم اللغة الأجنبية ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد المجتمع ولغته، أخطر منه تعليم اللغة الأم بشكل غير سليم، أو حشوها بألفاظ غير ذات معنى، أو ربطها بسياقات غير معاصرة. فاللغة أيضًا أداة التفكير الرئيسة، وتعتمد عليها العمليات العقلية الأساسية كالاختزال والاختزان، ومعالجة ما يختزل ويختزن في العمليات العقلية الأساسية. فاللغة السليمة هي أساس التفكير السليم، وليس الجسد السليم كما يقال. وما من لغة إلا وخلفها مخزون ثقافي يستطيع النهوض بها.

الشعوب المسيطرة، لا أقول المتقدمة لأن للتقدم جوانب كثيرة غير تقنية، تعي أهمية اللغة، وتعيرها اهتمامًا كبيرًا من حيث التعلم والتعليم، وكثير من الشعوب المكافحة قد لا تعي وللأسف هذه الأهمية، ولذلك ترى في اللغة مجرد أداة تخاطب آنية فقط تستطيع أن تنسلخ وتتجرد منها متى ما عنّ لها ذلك. وهذا الكلام غير دقيق وينطوي على كثير من الخطورة. ولذلك فالبعض يهمل الجانب اللغوي التربوي، ويرى أنه بالإمكان المزاوجة بين لغتين أو ضرتين في مجتمع واحد، وهذا أمر يعده كثير من الخبراء غير ممكن، والممكن، كما يجادل بعض الغيورين على لغتهم، أن تتم حماية اللغة الأم من هجمة اللغة الدخيلة بكافة السبل، وهذه عملية تتطلب الكثير من الدراسة والتخطيط. فتدريس اللغات الأجنبية قد يكون في بعض الأحيان مجازفة غير محمودة العواقب.



،،

شُكراً

رحلة مع مصطفى محمود



الأشجار التي نستظل بظلها اليوم، كان قد غرسها أناس قبلنا. فحريّ بنا أن نتعرف على هؤلاء الغارسين؛ لنكون أهلا للحصاد. وهؤلاء الواقفون على قمة الجبل، لم يهبطوا من السماء هناك، بل صعدوا من السفح بالضرورة. ففي قرية «ميت خاقان» من أعمال مدينة شبين الكوم وُلد مصطفى كمال محمود حسين، الكاتب الروائي الصحفي الأديب الطبيب، الذي لم يجاهر بأن نسبه من جهة أبيه ينتهى إلى الإمام الحسين (رضي الله عنه)، وأكرِمْ به من نسب.
وفي هدوء القرى النظيفة الوادعة، كان الطفل يحمل صُرّة الطعام، يمشي إلى حلقة تحفيظ القرآن في الكُتّاب، ليمتلئ من نور قول الحق: «والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى»، ولتُحفر في أعماقه صورةٌ درامية مجسّمة من قول القرآن: }وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى{، لكي يستقر في وجدانه منذ البدايات أن القرآن كائن حي، وأن الإيمان رجولة وسَعْي.
بعد ولادته بأيام انتقلت الأسرة إلى مدينة طنطا ذات الطابع الريفي بوسط الدلتا. حياة القرية والنهر والقرآن علمته السفر في الخيال، لكي يعوض في خياله ما لم يستطعه في عالم الواقع الصغير المحدود.
ولكن عصا مقرئ الصبيان حرمته من مواصلة متعة الاقتباس من أنوار القرآن. وعصا المدرس أوقفت استمتاعه بالتفوق في سنته الأولى الابتدائية. ولكنه وجد في حصة الرسم متنفسًا لخياله وأحلامه، ومنطلقًا لعواطفه، ليصبح في المرحلة الثانوية من ألمع طلاب مدرسته، ثم يصير فيما بعد أشهرَ من أن يُعرَّف به.
بالحب وحده كان يقلد تلاوة الشيخ «محمد رفعت»، وبالحب وحده كان يؤلف قصصًا من وحي المخيلة، يحكيها لطفلة تعلق بها وجدانُه الغض، بعيدًا عن الخوف من خشونة المدرسين.
أحبَّ العِلمَ، وموسيقى الناي، وموسيقى الكون الفسيح، وعَشِقَ الارتحالَ في الآفاق، والسفر في الخيال.
وبعد أن تكيف مع حالة التعليم النظامي المحبِط، استعلى برغباته من خلال الكتابة والنغم، وصارت «الكلمة» بالنسبة له حياة ومتنفسا. كتب يوما رسالة إلى أخيه «مختار»، فلما اطلع عليها الشيخ «محمود الصياد» صديق أخيه علق قائلاً: «سيكون هذا الطفل أديبًا يومًا ما». وصدقت النبوءة؛ فقد ألف مصطفى محمود كتبًا تفوق عددًا عدد سنوات حياته على الأرض، سجّل فيها إدراكه للعالم عبر القرن العشرين.
(لذا فمن الغرور ومن الحماقة أن يتوقع أحد جمع أشتات هذه الشخصية في بحث واحد).
إن كتبه هي أكبر لوحة شرف يُكتب عليها اسم طالب مجتهد. لكن لوحة الشرف هذه مكتوب عليها أيضا: «إن بناء السمعة الحسنة يحتاج عمرًا مديدًا، وأما تلويث السمعة فيحدث في دقيقة واحدة». فليس من بين كتب مصطفى محمود كتاب واحد مقرر على الطلاب في أي مرحلة تعليمية! لقد كَتَبَ عن البهائية قبل أن يسمع بها أحد في الإعلام المعاصر، وكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن قبل أن يتعرف العوام على الدكتور زغلول النجار، وتنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين. لكن أعظم إنجازاته كانت تقريب العلم المعاصر إلى بيوتنا وإلى لغتنا اليومية، وذلك قبل أن نعرف قنوات ديسكفري وناشيونال جيوجرافيك. لقد حمل أمانة (تجديد) الخطاب الإسلامي في مواجهة الساعين إلى (تبديد) ذلك الخطاب.
إذن فالأسماك الميتة وحدها يجرفها التيار، أما تلك القوية فتسبح ضده. ولو نشأ مصطفى محمود في أوضاعنا الحاضرة لربما فصله وزير التعليم لتكرار رسوبه ثلاث مرات!! إنه درس بليغ في توليد النجاح من ركام الفشل. وإن شئت فقل إن أحكامنا على الطفل قد تبعد عن الحقيقة بُعد المشرقين وبُعد المغربين.




تألق في المدرسة الثانوية

في المدرسة الثانوية تفتحت هوايات الشاب: الغرام بالعلوم، والتجارب العلمية، وإدمان القراءة، ومصاحبة المجهر (الميكروسكوب)، وقرض الشعر والأزجال، وحبك القصص، والعزف على العود والناي. ليصير صوت الناي مرادفًا لبرنامجه التليفزيوني الأشهر «العلم والإيمان»، من إنتاج شركة الرياض للإنتاج الإعلامي. ولتصبح الموسيقى المصاحبة لهذا البرنامج (أيقونة) بذاتها، بعدما أنتج منه أربعمائة حلقة، حازت أعلى نسب المشاهدة دون منافس، والتفت حولها عقول الناس وقلوبهم، من المحيط إلى الخليج. أولئك المتعطشون إلى الكلمة النافعة والنبرة الصادقة والضحكة الصافية واللهجة المخلصة، والخطاب الذي ينبع من القلب ليصل إلى القلب، فيوقظ العقل ويصلح في الأرض.
عشق صاحبي الناي، لأنه الآلة الموسيقية الأقرب إلى الذات الإنسانية؛ فالصوت ينبعث مع الأنفاس، مع آلية عمل الصدر، مع الآهات. فكأن السامع يسمع صوت الإنسان لا صوت الآلة. فالناي قطعة من نبات الأرض، وقبسة من الطبيعة البكر الحنون، لم تلوثه ألاعيب كهربائية ولا بهلوانيات التكنولوجيا.
وغرامه الأكبر بالعلم جعله أشهر من أفلح في تبسيط العلوم؛ فقد كانت مصر عن بكرة أبيها تنتظره كل أسبوع، لتغوص معه في أعماق الكون السحيق، وفي أغوار النفس البشرية، وفي كهوف الخفافيش، وقيعان المحيطات، ومجاري الأنهار، ثم تلج إلى بيوت النمل وخلايا النحل، وكريات الدم، ثم تحلق إلى قمم الجبال، ومدارات الأفلاك، ومكنونات البروتونات والنيوترونات، ثم تدخل إلى قصور العظماء، وتنزلق إلى حواري الحرافيش. لا يريد من وراء هذه الرحلة الكبرى سوى أن يوصلك إلى الخالق الحي القيوم.
}وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين{ (سبأ: 3).
}قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى{ (طه: 50).
إنني لا أضم فقط صوتي إلى أصوات المنادين بإعادة بث برنامج العلم والإيمان، وإنما أدعو علماء الأمة إلى استكمال الرسالة وتطويرها لمواكبة كل ما يدور في العالم، برؤية وبصيرة مصطفى محمود.
برع الطفل مصطفى محمود في الحكايات المحبوكة التي كان يخترعها أمام الطفلة «عدلية» في القرية. هذه البراعة في فن القصص جعلته يتحدث إليك كأنكما صديقان حميمان. وعندما قدم برنامج العلم والإيمان قدمه بلغة فائقة الوضوح، في قالب سردي يأخذ بالألباب، يستحوذ على انتباه الصغار والكبار، العلماء والبسطاء. وإن القلب ليقطر أسى لإيقاف بث هذا البرنامج.
وفي المرحلة الثانوية نشر في مجلة المدرسة أول قصة، ونال عنها جائزة ذات شأن (خمسون قرشا وحقيبة). ألا فليتأمل المربون إلى أي مدى يمكن أن يصنع النشاط التربوي مصائر الأجيال الصاعدة.
وفي المرحلة الثانوية عاش مراهقةً حافلةً بالنشاط ليس فيها فراغ ألبتة. فالوقت لا يكفي للقراءة والكتابة والتجارب المعملية والرحلات، بل إن الدنيا كلها كانت أصغر من أحلامه: فقد حلم بأن يكون شاعرًا وقصاصًا وموسيقارًا وصحفيًا وطبيبًا وعالمًا ومخترعًا ورحّالة.
وفي المرحلة الثانوية فقد حماسته الدينية إلى حين، لكنه لم يفقد روح التأمل والتساؤل والتعقل العميق. حتى وضع عصا الترحال على شاطئ اليقين خادمًا لكلمة «لا إله إلا الله».




الطبيب

وبعدما توفي الوالد سنة 1939 انتقل مع الوالدة من طنطا إلى القاهرة، ليلتحق بكلية الطب. وفي كلية الطب جرّب حياة التمرد على الأسرة وعلى قيود المجتمع، ولم يوقظه من تمرده إلا مرض التيفود الذي هاجمه، بسبب إقامته في (بَنْسِيون) في «حِلوان» بعيدًا عن العائلة، وسهراته في الأفراح ليلا، وعمله في الصحافة نهارًا، إذْ عمل محررًا صحفيًا مبتدئًا، بمرتب 12 جنيهًا شهريًا، في صحيفة «النداء» الوفدية، لصاحبها ياسين سراج الدين.
تعلم من المرض أن النجاح في دراسة الطب هو المنقذ له من مرضه، والمنقذ له من حياة الصعاليك. وبالفعل انصاع طالب الطب مصطفى محمود لنصح والدته وشقيقه، فتجرّد للدراسة الجامعية، حتى ظفر بشهادة الطب والجراحة. فكأنه تمثَّل بالحديث: «لا تَزُولُ قَدِمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرُهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟».
كانت قد جمعته خبرة العمل الصحفي مع مجموعة الشباب: أنيس منصور وكامل الشناوي ويوسف إدريس. وقد فاجأهم جميعًا بحصوله على البكالوريوس، ولم يصدقوا أنه صار طبيبًا إلا عندما شهد الشناوي حفل التخرج بنفسه.
ثم عمل طبيبًا في مستشفى الصدر في أقصى أطراف صحراء القاهرة آنذاك. وفي هذه المستشفى (مصحّة ألماظة) كانت فرصة للتأمل والخلوة في نهاية كل أسبوع، وراح يراقب عنكبوتًا يتحرك على الأسلاك التي تغطي النافذة. أثمرت هذه المراقبة فيما بعد عن روايته (العنكبوت) عام 1960. وفي هذه الظروف كتبَ «عنبر ٧» و«رائحة الدم» و«لغز الموت».
وعندما سئل ماذا يملك الطبيب من إمكانات تشجعه على أن يكون أديبًا؟ أجاب بأن للطب علاقة وثيقة بالحياة وأسرارها وخفاياها، فالطبيب هو الذي يحضر لحظة الميلاد ولحظة الموت، وهو الذي يضع يده على القلب ويعرف أسرار نبضه، وكل الناس يخلعون ثيابهم وأسرارهم، بين يدي الطبيب، فهو الوحيد الذي يباشر الحياة عارية من جميع أقنعتها. لذلك نجد الطبيب الأديب يقدم للناس العلم على طبق من الفن، أبدعته مخيلة أديب أو كاتب سيناريو.




لغز الموت

عاين مصطفى محمود الموت وليدًا وطفلاً وشابًا وشيخًا كبيرًا؛ فقد مات توأمه عقب الولادة مباشرة. ثم حدث أن أعلن طبيب القرية عن موت الطفل المريض مصطفى محمود، ليكتشفوا بعد أن جهزوه للدفن أنه لم يزل على قيد الحياة!! ثم يدخل الشاب كلية الطب، ويمضي الساعات الطوال داخل مشرحة الكلية، حتى لقبه أستاذه بالمشرحجي، لكثرة ما كان يمضي الوقت في المشرحة وسط الجثث، يتعلم ويتأمل واقعة الموت. وعندما أنشأ مسجد محمود اتخذ لنفسه غرفة صغيرة فوق المسجد، سمّاها «التابوت»، إذ كانت ضيقة تذكر بالموت ووحشة القبور، لكنها كانت مرصدًا لألعاب السيرك السياسي، وأبعاد «المؤامرة الكبرى»، و«لغز الحياة» و«لغز الموت» و«...بوابة الموت» و«الوجود والعدم»، و«سقوط اليسار» و«حقيقة البهائية»، و«قراءة للمستقبل» و«الغد المشتعل»، و«...عصر الجنون»، و«عصر القرود».
وعندما وضع مشرط الجراح في جثة آدمي، راح يتساءل: هل هذا هو الإنسان؟ وهل هذا هو المخ الذي يفكر؟ وهل هذا هو القلب الذي يحب؟ وهل الإنسان هو هذه الأحشاء التي يضمها الوعاء الذي نسميه الجلد؟ وما الفارق بين اليقظة والنوم؟ وما الفارق بين النوم والموت؟ وكانت هذه الأسئلة هي نواة كتابه (لغز الموت). لم يجد جوابًا عند الفلاسفة، بل قال: «إنني دخلت إلى الفلسفة في حيرة، وخرجت منها أكثر حيرة». فقد مرّ على مؤلفات فرويد ويونج وآدلر ووليام جيمس، وعرج على أفكار البوذية والزرادشتية والهندوكية. وقبل ذلك تعمق في كتب التشريح والفيزياء والكيمياء. فما كان لدى أحد من هؤلاء من جواب. وبقي السؤال المتحدي: «من أين؟ وإلى أين؟».
ثم صار الرجل يؤكد في كل مناسبة: «لا يكون العلم كاملاً إلا إذا أوصلك إلى العلم بنفسك، ثم إلى العلم بالله. فذلك هو العلم حقًا». وختم مقالاً له بقوله: «والعاقبة خلود في الجنة أو خلود في النار‏..‏ ولا يوجد وسط‏..‏» الوسط الوحيد الممكن هو وسطية الفكر والممارسة، وللتوضيح ننقل عنه قوله: «الأستاذ (فلان) حر في أن يكتب ما يشاء، ولكننا أحرار في محاسبته.. والذين يطالبوننا بالتصفيق لما يكتب هم إرهابيون من لون جديد يريدون مصادرة حرياتنا.. إننا ضد أي متطرف متهوس.. بمثل ما أننا ضد أي متطرف يحاول أن يهدم إيماننا وتاريخنا تحت دعاوى الحرية الكاذبة والتنوير» (زيارة للجنة والنار ص 109).
وقبل وفاته بثلاثة أعوام قال: «الآن‏ ‏لا‏ ‏يشغلني‏ ‏سوى‏ ‏التأمل‏ ‏فقط‏.. ‏أفكاري‏ ‏قلتها‏،‏ ‏و‏هي‏ ‏مجرد‏ ‏اجتهادات‏‏ ‏إما‏ ‏صحيحة‏ ‏وإما‏ ‏خاطئة‏؛ ‏لأن‏ ‏كلامي‏ ‏ليس‏ ‏قرآنًا. ‏ما‏ ‏يشغلني‏ ‏حاليًا‏ ‏هو‏ ‏متابعة‏ ‏أنشطة‏ ‏جمعية‏ ‏مسجد‏ ‏محمود‏ ‏الخيرية‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الأبقى‏». أجلْ هو الأبقى! هذا ما علمه إياه أبوه، الرجل الذي كان يعول تسعة أفراد، هم مجموع أبنائه وأبناء زوجته من زواجها السابق. إنه الأب الفقير حقا، لكن نفسه الغنية سمحت له طيلة العمر أن يتصدق بربع راتبه الشهري لله. هذه معلومات لا تستوقف كثيرًا من الناس، الذين تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون.




قل سيروا في الأرض فانظروا

وجد مصطفى محمود أن قراءة الكتب - على كثرتها - لا تشبع نهمه إلى المعرفة، فارتحل في الجهات الأربع: إلى تنزانيا، حيث صعد فوق جبل كليمنجارو، ومن هناك سيرًا على الأقدام إلى جنوب السودان، ليعيش ثلاثة أشهر في الغابة مع قبيلة الزاندي (نيام نيام)، وقبائل الشيلوك والدنكا والنوير، وليجمع قدرًا من عينات الصخور والأعشاب النادرة المنوعة، لتوضع في متحف ملحق بجمعية محمود الخيرية، وليسجل مشاهداته عن حياة القبائل الإفريقية، وأعمال التنصير وسطهم. وليبدي إعجابه بالذكاء الفطري عند الإفريقي البسيط، الذي قال له المنصّر: «إن الرب أمرنا بأن نبتعد عن السرقة والزنى». فردّ على البديهة: «إن الإنجليز الذين يحتلون بلادنا هم اللصوص الحقيقيون؛ لقد سرقوا ثرواتنا ومناجمنا وأخشاب الأبنوس، وحملوها على المراكب إلى بلادهم، فاذهبْ وانصحهم واتركنا».


وأمضى مصطفى محمود شهورًا بين «الطوارق» في الصحراء الكبرى، وفي لؤلؤة الصحراء مدينة «غدامس». ليكتب كتابه الممتع «مغامرة في الصحراء».
كما سافر طويلاً من بلاد الفطرة والبداوة والطمأنينة، إلى بلاد المدنية والرخاوة والقلق الإنساني، إلى الهند أم العجائب والملل والنحل وطاغور والسنسكريتية والبراهما واجيسوارا، وإلى ألمانيا بلد المصانع والورش واحترام الوقت، وإلى فرنسا بلد المسارح والصحافة، وإلى بريطانيا التي لا تقل عن غيرها في الاهتمام بالدجل والشعوذة، وإلى إيطاليا متحف الفنون والآثار المصرية (المسروقة). كما سافر إلى الأمازون ليحقق أحلامه القديمة بالذهاب إلى هناك.
وعندما توضأ مصطفى محمود من نهر بونا في يوغسلافيا تذكر الفاتحين الذين توضؤوا من هذه المياه. لقد كانوا في القرن الحادي عشر الميلادي تجارًا مسالمين، ولم يصعد جندي مسلم واحد إلى «دير اليوجوميل»، ولكن قاطن الدير هم الذين نزلوا مرحبين قائلين: «لقد كنا في انتظاركم.. لقد قرأنا خبر نبيكم في إنجيلنا». ومازال الدير على قمة الجبل يحكي القصة، بل يحكي ما صارت إليه المؤامرات في البلقان مع غروب شمس القرن العشرين. فأي تاريخ سنعلم أبناءنا؟
كان يقول: «لو حصلت على عمر آخر وخيروني بين أشياء عديدة فعلتها لاخترت السفر.. الترحال.. إنها كفيلة بأن تزرع بداخلك أي شيء آخر، فالسفر سيعلمك التاريخ، ويعلمك الفن، ويعلمك التجارة واللغات والتعمق في الدين».
لقد رأى وسمع وعايش الذين يقدسون الشجر والحجر والحيوان والطير والنجوم وأرواح أجدادهم، ثم وصل في خاتمة المطاف إلى اليقين بعظمة الإسلام وبساطته وملاءمته للعقل والفطرة النقية والمجتمع الفاضل.




إسهاماته الأدبية

أعدت مجموعته (عنبر7) و(شلة الأنس) للإذاعة المسموعة، وقدمت مسرحيته (الزلزال) على خشبة المسرح، وتحولت روايته (العنكبوت) إلى مسلسل إذاعي، كما أعدت روايته (المستحيل) للإذاعة والتليفزيون والسينما. وصنف الفيلم الذي أخرجه حسين كمال عن رواية المستحيل واحدًا من أهم مائة فيلم في القرن العشرين.

ولقد طغت حاسة الأديب في كتاب «زيارة للجنة والنار» الذي يحاكي فيه صنيع أبي العلاء المعري في رسالة الغفران. فأراد أن يصور مصائر الجبارين، لكنه احترز بقوله: «تعالى ربنا على كل ما نقول ونكتب.. فنحن في النهاية أسرى الكلمة، لا نستطيع أن نتجرد منها. وسجناء الحرف، لا نستطيع أن نتجاوزه.. والحقيقة فوق الكلمة وفوق الحرف، ومن وراء الكلمة والحرف.. والله من وراء الجميع.. إنما هو قول فيما لا يقال، ومحاولة أخرى لضرب المثال».
وكان المخرج المسرحي جلال الشرقاوي قد عزم على إخراج هذا العمل على خشبة المسرح، لكن حالت دون ذلك التكاليف الباهظة المطلوبة لتجسيد المشاهد. فمن ذا الذي يستطيع أن يصور للعيان الآيات القرآنية من 22 إلى 68 من سورة الصافات وحدها؟ أليس في هذا لون من الإعجاز يضاف إلى أوجه الإعجاز القرآني؟
وبعد أن فرغ مصطفى محمود من السرد الأدبي، انتقل مباشرة -وفي الكتاب نفسه- إلى اللغة الواقعية، ليحلل ما يدور في الديكتاتوريات الإفريقية والأمريكية الجنوبية، وصفقات الموت برعاية المخابرات والشركات الحقيقية والوهمية العابرة للقارات. (راجع القسم الثاني من كتابه: زيارة للجنة والنار، بعنوان «الجبارون الجدد» و«أكبر تنظيم إرهابي في العالم» ص 87-129).
وفي مجال الخيال العلمي قدم مصطفى محمود روايته «رجل تحت الصفر»، وظف فيها معارفه العلمية توظيفًا أدبيًا، أطلق فيه العنان لخيال جموح، لكنه لم يفلت من جاذبية التفكير في الموت، والتأمل في المصير الأخير للموجودات وللكون بأسره. وهذه الرواية فيما أرى من أصلح كتب مصطفى محمود للتدريس في مدارسنا.
قرأت وصفًا لكتابات مصطفى محمود الأدبية بأنها متوسطة القيمة، لكن هذا الوصف لم يصاحب الرجل في بداياته، وإنما ظهر بعدما انقلب عليه الأشخاص الذين رفعوه -في الخمسينيات والستينيات- إلى مصاف كبار الأدباء العالميين. فحين كتب قصة في مجلة «صباح الخير» عن (زبّال)، وصفته الأقلام يومها بأنه «أعظم كاتب».. وبأنه «تشيكوف عصره».
يقول مصطفى محمود: «عندما عدلت وعرفت الطريق الصحيح، كاد هؤلاء الناس يفتكون بى، اتهموني بالردة الاجتماعية والنكسة الفكرية. وقد حذفت هذه القصة من كل مؤلفاتي بعد ذلك، ولم أدخلها أي مجموعة قصصية». أجل! أليس في عالم الأدب والنقد كثير من الحواة والمهرجين؟ نعم! الحواة الذين وصفهم مصطفى محمود بأنهم: «سمحوا لك أن تكفر بالله وتكذبه‏,‏ ولم يسمحوا لك أن تكذّبهم‏».
من أجل ذاك قال مصطفى محمود: «ما رأيتني نازعت أحدًا خطّأني، ولا كرهت أحدًا صوّبني.. بل عهدت نفسي دائمًا أراجع ما أكتب، وأصحح فيه الطبعة بعد الطبعة.. وأقبل بصدر مفتوح نقد الآخرين. فإن رأيتني كتبت صوابًا فمن الله، وإن كتبت خطأ فمما سولت لي نفسي».




مسيرة طويلة نحو اليقين

في كتابه «الله والإنسان» (1956) التزم برؤية مادية أحادية، تفسّر كل شيء بمعطيات خبرة الحواس المباشرة. وعندما حوكم أمام محكمة أمن الدولة ترافع في القضية الدكتور محمد عبدالله المحامي على مدى ثلاثين يومًا. اكتفى على إثرها القاضي بمصادرة الكتاب، دون إفصاح عن حيثيات. وتثبت الأيام والوقائع أن مصطفى محمود لم يكن قط ملحدًا ولا شاكًّا في دينه.
لقد لخص كامل الشناوى الرحلة بقوله: «إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة»؛ إذ كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء. وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان، بدءًا من الديانات الأرضية مثل الزرادشتية والبوذية. ثم انتقل إلى الأديان السماوية، ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم.
أجل! أنقذه القرآن من عُقم سقراط، وتناقضات أفلاطون، وأحقاد ماركس، وظنون كانط وشوبنهور، وحيرة الفلاسفة كلهم، وأسئلتهم التي لا تولّد سوى المزيد من الأسئلة.

وأشهد أنني أول مرة سمعت فيها عن محمد بن عبدالجبار النّفّري كانت من فم مصطفى محمود. ثم قرأت «المواقف والمخاطبات» فأدركت أن مصطفى محمود هو أكبر المغرمين بالنفري، وحين عشت مع كتاب «رأيت الله» أدركت مدى عشقه لكتاب «المواقف والمخاطبات» إذ يسميه (التحفة الخالدة). ثم عثرت على ترجمة أرثر أربري الإنجليزية للمواقف والمخاطبات (cup,1935) ثم وجدت شرح كتاب المواقف لعفيف الدين التلمساني، فأدركت أن للكتاب لدى العلماء شأنًا أي شأن. ثم عرفت لماذا أصدر المجمع الثقافي في أبو ظبي نسخة صوتية من كتاب المواقف وكتاب المخاطبات، كأنها أنسام من السماء، لمن كانت له طاقة على التذوق والتأمل.

بالتذوق وبالتأمل تجول مصطفى محمود داخل ولايات أمريكا فقال: «ما أجرأه على الكذب ذلك الذي مشى على القمر، وارتحل إلى النجوم، وأخضع وحوش الغاب، حينما يدعي أنه لا يستطيع أن يحكم الوحش بداخله». لكنه يستدرك فيقول: «أكاد أقول إن أصدق تعريف للحضارة هو القدرة على التفاهم بين المختلفين، والقدرة على تجاوز التناقضات في المواقف والآراء والأمزجة، وتغليب الإنسانية والحكمة. وإنما تأتي حكاية التقدم العلمي والتكنولوجي نتيجة لهذه الصفة، صفة تغليب الحكمة والفكر». إنه الرحّالة الذي يرى الأشياء بعين الحكمة لا بعدسة الكاميرا.
ويجابه مصطفى محمود أدعياءَ العلم والذين يرون الغيب مجرد خرافة، فيذكر: «أن هناك مادة مظلمة خفية تملأ جنبات الفضاء والكون، وأن هذه المادة الخفية تشكل أكثر من 95% من الكون، وأن ما ندركه بوسائل إدراكنا من هذا الكون أقل من 5% من محتواه الكلي». فما معنى الجحود بالغيب إذن؟ يقول في بساطة: «حاصل جمع الكتل الموجودة والمرئية بمناظيرنا وكاميراتنا الفضائية ومجساتنا لأشعة إكس وأشعة جاما والأشعة تحت الحمراء ومنظار هابل تقول إن مجموع المادة الموجودة أقل بكثير من المقدار الذي يفسر هذا التماسك الجذبي القائم».
وسجّل ضمن ما سجل: «إذا كان الله منحنا الحياة فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت.. فلا يمكن أن يكون الموت سلبا للحياة، وإنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى». وعبّر عن نعمة التوحيد فقال: «لأن الله واحد فلن يوجد في الوجود إله آخر نقض وعده، ولن ننقسم على أنفسنا، ولن تتوزعنا الجهات، ولن نتشتت بين ولاء لليمين وولاء لليسار، وتزلف للشرق وتزلف للغرب، وتوسل للأغنياء، وارتماء على أعتاب الأقوياء. فكل القوة عنده، وكل الغنى عنده، وكل العلم عنده، وكل مانطمح إليه بين يديه. والهرب ليس منه بل إليه. فهو الوطن والحمى والمستند والرصيد والباب والرحاب.. وذلك الإحساس معناه السكن والطمأنينة وراحة البال والتفاؤل والهمة والإقبال والنشاط والعمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل، وتلك ثمرة «لا إله إلا الله» في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها ويؤمن بها ويعيشها، وتلك هي أخلاق المؤمن بـ«لا إله إلا الله».
بعدها بنحو عشر سنوات كتب مصطفى محمود «القرآن: محاولة لفهم عصري» (1968) ليؤكد أن الحقيقة الإلهية ووحدانية الخالق، لم تكن في أي وقت محل شك لدى الرجل. لكنه أراد أن يثبت حقه في البحث عن اليقين، من خلال البحث والتمحيص والبرهان، وليس العناد ولا المكابرة. والرجل الذي لم ينقطع يوما عن إقامة الصلاة إنما أراد أن «يبدأ الرحلة من أول السطر»، وأن يأخذ حقه من التفكير.

عاش مصطفى محمود باحثًا عن الحقيقة، شجاعًا في الرجوع إلى الحق، لا يأنف أن يعلن عن خطئه، يتمثل بدستور عمر بن الخطاب: «لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل». وبلسان مصطفى محمود: «لا تؤخذ النفس بما فعلتْه وندمتْ عليه ورجعتْ عنه، ولا تؤخذ بما تورطت فيه ثم أنكرته واستنكرته، فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته وجوهريته، ويدرجه مع العوارض العارضة التي لا ثبات لها». فعندما عرض عليه الرئيس السادات أن يعيد طبع كتاب (الله والإنسان) طلب منه مصطفى محمود بدلاً من ذلك طبع كتاب (حوار مع صديقي الملحد)، وصديقه هذا هو الجيل الصاعد من الشباب الذي اهتزت هويته أو انفصل عن جذوره الإسلامية. ولينضم الرجل إلى قاطرة الذين اشتهر منهم محمد جلال كشك ومحمد عمارة وعادل حسين.
وقد ترك الدكتور مصطفى محمود وصية شرعية لأهله تمنعهم من إخراج أي نسخة من كتابه «الله والإنسان».

}فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم{ (البقرة: 181).
ألا ما أروع مقالته: «انتصاراتي‏ ‏علي‏ ‏نفسي‏ ‏هي‏ ‏أهم‏ ‏انتصارات‏ ‏في‏ ‏حياتي»، فصدق فيه قول

القائل:
لما عفوت ولم أحقد على أحد


أرحت نفسي من هم العداوات.


مصطفى محمود - الذي لم يحقد على أحد- دفع ثمنًا غاليًا لنشره مقالتين بعنوان: «هتلر والنازية» و«الخروج من مستنقع الاشتراكية». لكن الذين منعوا مصطفى محمود قسرًا من الكتابة والنشر كانوا أصحاب فضل علينا؛ لأنهم منحوه فرصة التفرغ لكتابة «الإسلام والماركسية» و«الإنسان والظل» و«الزلزال» و»الإسكندر الأكبر».



مسيرة طويلة نحو الأسرار الكبرى

لا يكفي أن ننقل عن فلان أنه قال كذا، ولكن من الضروري أن نعلم متى قاله، وفي أي سياق قاله، وما موضع ذلك القول في مسيرة حياته. وفي تقديري أن أخريات ما يكتبه الكاتب هي الأجدر بأن تُنقل وتُروى عنه، مع ضرورة الاحتراس البالغ من أسلوب «ولاتقربوا الصلاة».
ومن أحب المقاطع التي أقتبسها عن مصطفى محمود هي سؤاله: «سألت نفسي عن أسعد لحظة عشتُها.. ومر بخاطري شريط طويل من المشاهد.. لحظة رأيت أول قصة تنشر لي، ولحظة تخرجت في كلية الطب، ولحظة حصلت على جائزة الدولة في الأدب.. ونشوة الحب الأول والسفر الأول.. والخروج إلى العالم الكبير متجولاً بين ربوع غابات إفريقيا العذراء، وطائرًا إلى ألمانيا وإيطاليا والنمسا وسويسرا وإنجلترا وفرنسا وأمريكا.. ولحظة قبضت أول ألف جنيه.. ولحظة وضعت أول لبنة في المركز الإسلامي بالدقي.. استعرضت كل هذه المشاهد، وقلت في سري: لا. ليست هذه.. بل هي لحظة أخرى ذات مساء من عشرين عامًا، اختلط فيها الفرح بالدمع بالشك بالبهجة بالحبور، حينما سجدت لله فشعرت أن كل شيء في بدني يسجد.. قلبي يسجد.. عظامي تسجد.. أحشائي تسجد.. عقلي يسجد.. ضميري يسجد.. روحي تسجد... أحسست وأنا أسجد أني أعود إلى وطني الحقيقي الذي جئت منه، وأدركت هويتي وانتسابي». (السؤال الحائر ص4).






تصويب المفهومات

لذوي التدين الصوري، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال مصطفى محمود: إن الدين هو «الأمانة والاستقامة، والصلاح والعمل النافع، وطهارة اليد ونقاء الضمير، والزهد في الدنيا وتقوى الله، والعمل للآخرة‏».
واستمر موضحًا: «لا بد من الاعتراف بأننا نحن المسلمين أخفقنا في الدعوة إلى ديننا، وأننا لم نبلغ الإسلام بقيمه الرفيعة وقيمه السامية إلى العالم» (علم نفس قرآني جديد، 161) ويشرح قليلاً: «السنة هي أن نتأسى بالنبي في كل هذا: في كرمه وحلمه ووداعته وصبره وشجاعته وطهارته وطاعته لربه وبره بأهله وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة والتزامه بالتقوى والورع في كل تصرف» (ص164) وبنظرة أعمق: «خطيئتنا الكبرى -وقد أحاطتنا المحن من كل جانب، واجتمع علينا الأعداء- أننا لم نلتق على كلمة سواء، ولم نتحد على موقف، وقد فقدنا الإحساس بالأمة، وفقدنا روح الجماعة».

ثم ينصح لكل أحد: «اسأل نفسك.. هل تنام كل يوم على مودة وحب ورغبة في الخير ونية في عمل صالح؟ أم على غل وكراهية وحسد وتربص؟.. وستعلم إلى أي مدى أنت على دين الإسلام» (سواح في دنيا الله، ص9) وأيضًا (الإسلام في خندق، ص9).
شرَح الرجل وشرَّح أعراض الحب الزائف، ففضح أقاويل عبدالله بن سبأ، وهتك غلو بعض الشيعة وفرقها، وفضح «كيد الكائدين من مختلف الملل التي غلبها الإسلام وأزاحها وكسر سلاحها وحطم عروشها، فعادت بدورها تغزوه بأفكارها»(حقيقة البهائية ص7-8) ولم يسكت عن هلاوس الميرزا علي محمد (الباب)، ولا عن تفسيره المخترع للأحد عشر كوكبًا في سورة يوسف. مثلما فضح فرية نسخ الشريعة المحمدية، ومؤامرة (دمج الأديان) وخلع حجاب المؤمنات (ص18-19). ولم ينخدع مصطفى محمود بادعاءاتهم نشر (ثقافة السلام) وهم أنفسهم مشعلو الحروب، ولم ينقطع دابرهم بإعدام (الباب) الذي قال عن كتابه (البيان) إنه أفصح من القرآن، وناسخ لأحكامه (ص29) وقد تطورت اللعبة حتى خرجوا علينا بما أسموه (الأقدس) ثم (الفرقان الحق) فلم يستروا ذهبهم ولا مذهبهم، بل قالوا: يمكنك أن تكون بهائيًا مسيحيًا أو بهائيًا ماسونيًا أو بهائيًا يهوديًا أو بهائيًا مسلمًا (ص57). ثم فضح دخائل القاديانية حليفة البهائية الذين أبطلوا الجهاد، ودعوا بالنصر للملك جورج عاهل إنجلترا !!. لقد أدى مصطفى محمود أمانة العلم، وبقي علينا أن نتعلم ونعلم.






اقرأ وربك الأكرم


لأن الواعظ الجاهل هو محام فاشل في قضية عادلة، فقد راح واعظ القرية يرشد الناس إلى وسيلة للتخلص من حشرات المنزل، لكنه - بدلاً من أن يغرس فيهم الروح العلمية كما جاء بها القرآن- جعل يسوّق بضاعة فاسدة، فاكتفى بأن يسرد عليهم كلمات، توهّم أنها إذا كُتبت وعُلقت في الدار طردت الحشرات. ولكن أثبتت التجربة العملية أن هذا كله خطأ بل دجل وأوهام. وكان لابد من أن يواجه هذا المسلك شخص ما، ولم يكن هذا الشخص سوى الفتى مصطفى محمود. فأين هؤلاء الوعاظ المساكين من البيروني وابن الهيثم وابن حيان وابن النفيس والخوارزمي؟ بل أين موضع أولئك العباقرة في مناهجنا التربوية؟

تقول زوجته السابقة: «كان يتمنى أن نتزوج في مكة المكرمة حتى يُضفي المكان بُعده الإيماني على زواجنا.. لكن الظروف حالت دون ذلك، فتزوجنا في المسجد النبوى. قبل الزواج قمنا بأداء العمرة... تزوجنا بمنطق العقل، وكان هناك هدف يجمعنا، بدأناه بتأسيس جمعية محمود الخيرية الإسلامية التي افتتحناها معا في عام 82.. كان مهري خمسة آلاف جنيه، تبرعتُ بها للجمعية... كنا نسكن أعلى الجامع، في مكان عبارة عن حجرة بحمام وصالة صغيرة... علّمنى كيف تكون الحياة وكيف يفني الإنسان حياته من أجل هدف نبيل».
وأما عن تصحيح المفهوم السائد عن الإصلاح فقال مصطفى محمود إن «تلخيص عملية الإصلاح في مسمى واحد هو «رفع دخل الفرد» هو تلخيص مخل للمشكلة الاجتماعية ولحقيقة الإنسان، فالمطلوب هو الارتفاع بالإنسان كله، وليس مجرد محتويات جيبه... الدين والعلم والفن والفكر تلازموا وترافقوا كإخوة بطول حركة التاريخ الإسلامي».


ولسماسرة الأفكار يقول معلّمًا: «كيف يتأتّى لعاقل في مثل هذه الظروف أن يقول بتهميش الدين وتهميش التعليم الديني؟! وما يسميه البعض بتجفيف الينابيع (أي تجفيف كل مصادر التزود بالعلوم الدينية) وهو مطلب لا ينادي به إلا عدو لدود يريد بنا الهلاك والدمار».
ثم يصل إلى الصخرة التي ارتدت عنها أمواج التنصير والاستعمار، فيقول: «أرجو أن يعود الأزهر إلى كامل تخصصه الديني، وأن يكفّ المشرفون فيه عن اختصار مقرراته، وتقليص مساحة القرآن فيه - تحت زعم التخفيف عن الطالب- ثم إنكار ما يحدث، ونشر البيان تلو البيان بأن كل شيء على مايرام»..ويسأل معبّرًا عن حيرتنا جميعًا: «إذا كان الأزهر سوف تقتصر الدراسة فيه على الملخصات والمختصرات.. فأين يجد طالب المعرفة العلم المستوفى والمعارف الجامعة؟».
وأما سماسرة الثقافة والسياسة فقال لهم: «إن القول بأن السلام خيار استراتيجي لا يعني أبدًا أن الاستسلام أصبح الخيار الاستراتيجي. ولا أحب أن يختلط هذا على فهم الآخرين، فتصل إلى أفهامهم الرسالة الخطأ، فالسلام شيء غير الاستسلام». وماذا أستفيد من جار لا يأتيني منه سوى المخدرات والدولارات المزيفة والجواسيس والتآمر حول منابع النيل؟..ويتسع الأفق بنا وبه فيوضح بديهية من بديهيات العقلاء مفادها: لو أن تركيا وجهت خنجرها في صدر الإسلام وفي قلب العرب، فلن تكافأ بدخول الاتحاد الأوربي.

وفي زمن تجرأت فيه شياطين الإنس على الإسلام يعلمنا مصطفى محمود أن القرآن هو وحي الله الذي يتسق -دون غيره- مع حقائق العلم، فمثلاً لا يحتاج من يريد إثبات التحريف والتغيير والتبديل في التوراة إلى أدلة من خارج التوراة؛ فالتوراة ذاتها تعطيه المفتاح، وتعطيه الأدلة على تحريفها.. والشك في أسفار التوراة قديم ومعترف به من طوائف الملة المسيحية أنفسهم (كتابه: التوراة ص95و96) وأما قول من قالوا إن «القرآن مطلق والعلم نسبي، والمطلق لا يرتبط بالنسبي»، فهو كلام لا يراد به سوى الباطل؛ ففي العلم ثوابت وحقائق راسخة، وهذه الحقائق هي التي نبتغيها حين نحاول أن نفهم القرآن في ضوء العلم، وحين نحاول أن نكشف عن جوانب الإعجاز العلمي في القرآن، كلام الخالق منزل القرآن ومبدع الأكوان. وإن الآيات الكونية في القرآن يتجدد فهمنا إياها مع الفتوحات العلمية التي ينعم الله بها على الخلق كل حين. وهذا مصداق قول الحق:
}سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد{ (فصلت: 53).
وأما من زعم أن مراد الله من كتابه لا يُلتمس إلا في كتب التفاسير، فقد ضيّق واسعًا، وناقض حكمة الله في بقاء القرآن معجزة حية متجددة أبد الدهر. الذين يرفضون الكشف عن الإعجاز العلمي للوحي إما جاهلون أو أنهم المشار إليهم في قول الحق
}ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير{ (البقرة: 109).


التربية والإعلام

قبل ثلاثين عامًا تنبه مصطفى محمود إلى تأثيرات التليفزيون في المجتمع، فقال: «لو وقف مصلح اجتماعي يطالب بوقف هذه البرامج اللاهية، وتحويل البرامج التليفزيونية إلى نوع من الجامعة الشعبية، وتحويل الإعلام الاستمتاعي إلى إعلام تربوي.. مثل هذا المصلح سوف يواجَه بالطوب ومظاهرات الاحتجاج من الجمهور نفسه.. جمهور الأغاني والقبلات والمسلسلات والرعب والدم والجنس و(الكورة)...هذا الجهاز بسبيله إلى إحداث تحولات في الوعي الإنساني، ستكون للأسف بالسلب وليس بالإيجاب»
ويعقب كأنما يرد على المجادل: «صحيح أن التليفزيون يعرض بالفعل فنونًا رفيعة وأفكارًا عالية، وهو يقدم الدين والقيم والعظات والعبر إلى جانب الجريمة والجنس والانحلال.. لكن الفساد يأتي فيه مزوقًا جذابًا وهو يغازل النفس بمشتهياتها، ويروادها في ضعفها، وهو يقدم لها وعدًا عاجلاً باللذة.. فما تلبث اللحظة الفاسدة أن تجرف أمامها كل المؤثرات الطيبة». أيها التربويون أنصتوا: «التليفزيون يمكن أن يكون جامعة، ويمكن أن يكون كباريه» فماذا اخترتم لأنفسكم ولأحفادكم؟
ثم يخاطب صناع الرأي: «يا مؤلفون ويا كتاب السيناريو ويا منتجون: أبدعوا أشياء من بيئاتكم ومن تاريخكم ومن عقائدكم وأحلامكم. انبذوا هذا العَلَف المسموم».. «نريد أن نرى بلدنا وهويتنا في برامجنا وتليفزيوننا». ما أروع الحياة بسلام، ولكن قولوا لنا: من جلب الترسانة النووية إلى منطقتنا؟ ومن قتل يحيى المشد وسميرة موسى والكونت برنادوت؟ ما أجمل ثقافة السلام، ولكن أطفالنا يسألوننا: من فجر طائرة البوينج المصرية بركابها؟ ومن يسلب الأراضي كل صباح؟ ومن يطور أسلحة الدمار كل يوم؟ ومن صنع نصبًا تذكاريًا لقاتل الساجدين في الحرم الإبراهيمي؟ وماذا يجري هنالك عند منابع النيل؟
وقد رصد مصطفى محمود برهافة الأديب أن الاستعمار اللغوي قد أبى إلا أن يبيض ويفرخ في أرض العرب المعاصرين. ولكنه لا يرى من عاصم من الهزيمة اللغوية سوى الإسلام. «الإسلام هو الذي حفظ هوية المنطقة.. وهو الذي مازال يضبط النطق العربي» (سواح في دنيا الله، ص33).


خاتمة التوفيق

قطع الرجل شوطًا بعيدًا، وتوقف طويلاً أمام قول الحق}قد أفلح من زكاها{ (الشمس: 9).
وقوله}ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير{ (فاطر: 18).
فقال معلمًا: «لا سبيل إلى تطهير النفس وتزكيتها إلا بإتقان العبادة والتزام الطاعات، وإطالة السجود وفعل الصالحات. وبحكم رتبة العبودية يصبح الإنسان مستحقًا للمدد من ربه، فيمده الله بنوره ويهيئ له أسباب الخروج من ظلمته. وذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد الله، بالتخلية (تخلية النفس من الصفات المذمومة)، ثم التحلية (تحلية القلب بالذكر والفضائل) والتعلق والتخلق والتحقق».

ثم يمضي شارحًا: «والتعلق عندهم هو التعلق بالله وترك التعلق بما سواه. والتخلق هو محاولة التحلي بأسمائه الحسنى، الرحيم والكريم والودود والرءوف والحليم والصبور والشكور.. قولاً وفعلاً.
والتحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء واللطف والمشاكلة، فتصبح نورانيا في طباعك أو تكاد». ويختم مقررًا: «ولا سبيل إلى صعود هذا المعراج إلا بالعبادة والطاعة والعمل الصالح، والتزام المنهج القرآني والسلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات الله وسلامه».
ربما يوصف مصطفى محمود بأنه متصوف، لا بأس. لكنه المتصوف الذي يقرأ ويحلل كتبًا من مثل «علاقات خطرة»، الكتاب الذي يصف كواليس المخابرات ودورها في تحريك الأحجار على رقعة الشطرنج. متصوف لا بأس، لكنه يحلل كيف أقام العدو مستوطناته فوق خزانات المياه الجوفية في أراضينا، وينبه الغافلين إلى حرب المياه التي تستهدفنا نحن دون سوانا.


بعض الجهات تروج لنمط من التصوف يمجّد السلبية والانسحاب من الحياة العامة وربما (البلاهة)، لكن مصطفى محمود كان دومًا هناك، يتابع ويحقق ويدقق ويسجل وينصح. فبعد مؤتمر السكان بالقاهرة قال: «المطلوب عمار الأرض الخراب بالسكان، وليس بتحديد المواليد». ثم هو يعلّم الجاهلين عواقب الانصياع لشروط موردي القمح، فيقول: «أما بول أرليتش من جامعة ستانفورد بأمريكا فيقترح خلط القمح الذي يصدر إلى البلاد النامية بعقاقير منع الحمل.. وكأنما أصبحت البلاد النامية في نظره مزرعة دواجن أو حظيرة خنازير» (الغد المشتعل، ص66).


وبشكل عملي مارس مصطفى محمود أسلوبه في التدين، بأسلوب علمي، ودونما ضجيج، فقد نفذت جمعية مسجد محمود مشروعات، منها مشروع القرض الحسن الدوار، وهو أسلوب يقوم على أن القرض المسترد تحصل عليه عائلة أخرى، وهكذا بشكل دوري.
ومشروع الاستفادة من المخلفات الزراعية، لتوليد الطاقة، وتصنيع العلف الحيواني، ولتجنب التلوث، ولتجنب إهدار الثروة، ولتشغيل العاطلين. ومشروع مزارع الأسماك في مناطق الواحات. ومشروع بنك الطعام للمساكين والمساجين.

الرجل الذي لم يتحدث قط عن شرف انتسابه إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان من المتوقع منه أن يرفض منصب المستشار أو الوزير، عندما عرضه عليه الرئيس السادات. ومن باب أولى أن يرفض مناصب من قبيل رئاسة مجلس إدارة واحدة من المؤسسات الصحفية الحكومية، فاكتفى بلقاء شهري مع الرئيس للتفكر في أحوال الأمة. لم يفكر في أن يستغل اقترابه من الرئيس في شراء شركات الدولة، ولا في الحصول على أموال البنوك، ولا في تخصيص الأراضي له ولأسرته. ولم يكن لديه وقت ليدفع عن نفسه سفاهة السفهاء، الذين أشاعوا - قاتلهم الله - أن الرجل كان يتصل بالجان، أو أنه نزيل بمستشفى المجانين، أو أنه اعتنق النصرانية!!! كان هدف البغاة أن يصدوا الشباب عن قراءة «...لغة المحرقة» و«...البداية والنهاية» و«المؤامرة الكبرى» و«التوراة» و«حقيقة البهائية».

وبعيدًا عن صخب الحياة وضجيج الإعلام، فارق مصطفى محمود عالم الزيف والأشباح إلى عالم الحق والأرواح، في 31 أكتوبر 2009. تجاهلته منابر كثيرة، بعدما فضحهم أجمعين بضربة واحدة: «لا هُم تقدميون، ولا علميون، ولا موضوعيون»، فأثاروا حوله غبار المشاغبات الفارغة؛ ليصرفوا الناس عن التفاعل مع ما كتبه عن «طاعون العصر ودولة الإرهاب». لكن يبقى لنا ما خطه القلم نقشًا في القلب، ويبقى لنا مجمّع محمود الخيري، لسانَ صدقٍ، وعملاً صالحًا، وصدقةً جارية. فأما الزَّبَد فيذهب جُفاء، وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض.


المراجع :


ويكيبديا .

الأعمال الكاملة لـمصطفى محمود.
لقاء زوُجته مع جريدة الغد.
مصطفى محمود في سطور.
أعلام الفكر العربي
خارطة الطريق .



شُكراً
 

رحلة مع مالكوم إكس


لايمكنك فصل السلام عن الحرية ، لأنه
لايمكن أن تكون مسالماً ، مادُمت غير قادر على أن تكون حُراً

**
مالكوم إكس
" الحاج مالك شباز "


نبُذة :


مالكوم إكس (بالإنجليزية: Malcolm X) أو الحاج مالك شباز (19 مايو 1925 - 21 فبراير 1965) يعد من أشهر المناضلين السود في الولايات المتحدة وهو من الشخصيات الأمريكية المسلمة البارزة في منتصف القرن الماضي، والتي أثارت حياته القصيرة جدلاً لم ينته حول الدين والعنصرية، حتى أطلق عليه "أشد السود غضباً في أمريكا". وهو مؤسس كل من المسجد الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية الأمريكية. كما أن حياته كانت سلسلة من التحولات حيث انتقل من قاع الجريمة والانحدار إلى تطرف الأفكار العنصرية، ثم إلى الاعتدال والإسلام، وبات من أهم شخصيات حركة أمة الإسلام قبل أن يتركها ويتحول إلى الإسلام السني، وعندها كتبت نهايته بست عشرة رصاصة في حادثة اغتياله


ولد مالكوم إكس أو مالك شباز بمدينة ديترويت سنة 1340 هـ لعائلة كبيرة وعائل فقير لم يلبث أن قتل للعنصرية على يد عصابة من البيض فنشأ مالكوم في هذه البيئة القائمة فشحن الفتى من صغره كرهًا وبغضًا على البيض وكل ما هو أبيض وطرد مالكوم من مدرسته وهو في السادة عشر من عمره فانتقل من مدينته إلى نيويورك حيث عاش حياة الفاسد والجريمة التي انتهت به إلى السجن وكان دخوله السجن نقطة تحول في حياته. حيث التقى في السجن بزميل له حثه على التفكير والقراءة فأثر في مالكوم بشدة وفي تلك الأثناء جاءته رسالة من أخيه يدعوه للدخول في الإسلام والانضمام لجماعة أمة الإسلام فأعلن مالكوم دخوله في الإسلام.
وأقبل على قراءة الكتب خاصة التاريخية والاجتماعية حتى أنه كان يقضي خمس عشر ساعة متصلة في القراءة حتى أتى على كتب كبار لم يتوفر لغيره قراءتها وحصل كمًا جيدًا من المعلومات، ودخل في مناظرات في السجن مع القساوسة والنصارى أكسبته جلدًا وحنكة وخبرة في مخاطبة الناس وإقناعهم.




سُيرة بطلَ :


في شهر جوان من سنة 1965 أسكتت أكثر من عشر رصاصات أكبر قلب نبض بالثورة والمناداة بالحقوق المدنية للسود في ديار الأمريكان.. وقد ارتبط هذا القلب بالإسلام كحلّ لأزمة العرق والتفرقة العنصرية في أمريكا. بل كان يقول إن أمريكا بحاجة إلى أن تفهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يشطب على قضية اللون.. إنه الشهيد "مالكولم اكس" أو "مالك شبّاز" كما تسمى بعد رحلته الأخيرة للحج. وسيرة ماكولم اكس تعتبر من أعجب سير الزعماء في هذا العصر ... ويكفي أن مذكراته طبعت حوالي أربعين طبعة في أمريكا وحدها ... وقررت كمادة دراسية في أقسام العلوم السياسية وأقسام دراسات الأقلية السوداء بالجامعات كما أن خطبه وضعت في معامل اللغة للتدريب على الخطابة باعتباره ثاني اخطب خطيب شهدته الستينات. والشيء المؤسف أننا لا نعرف في العالم العربي عن مالكولم اكس إلا الاسم و إن زعماء سودا آخرين من أمثال "مارتن لوثركنج" المسيحي هم أكثر شهرة منه على الرغم من أن هذا الأخير كان من أنصار إسرائيل وبعكس مالكولم اكس الذي كان يعمل للتضامن مع العالم العربي والإسلامي.

سيكتشف الناس أن المغتال كان محقا، بل دائما على حق. سوف يؤول كلامه في سياق استشراف المستقبل، وسيعاد إنتاج شخصه ودوره بأشكال وسياقات عديدة وبصورة لم تخطر على باله أو بال الجهة التي غيبته.


ثمة رتل عريض من الإسلاميين واليساريين والوطنيين ودعاة الحقوق المدنية في بقاع الأرض المختلفة الذين يستعيرون رمزية إكس في شتى السياقات. فما حقيقة مالكوم إكس؟ ولماذا اغتيل؟ ولم أصدرت إدارة البريد الأميركية طابعا يحمل صورته عام 1999؟ واعتبرت مجلة "تايم" كتاب سيرته الذاتية واحدا من أهم عشرة كتب على الإطلاق صدرت في القرن العشرين؟ ولماذا تظلقصته شبه مجهولة في العالم العربي، رغم الدور المحوري الذي لعبته احتكاكاته العربية في تطوير فكره والتأثير بالتالي على الحياة الأميركية؟
كغيره الكثير من الشخصيات التي لعبت أدوارا تاريخية، تبدأ قصة مالكوم بيتم مبكر، فقد كان لا يزال في السادسة من عمره عام 1931م عندما اغتالت عصابة من العنصريين البيض والده القس بسبب نشاطه السياسي ودعوته إلى تقوية المجتمع الأميركي الأسود. قامت الرعاية الاجتماعية بعد ذلك بأخذه من والدته وانتهى به الأمر أن يشكل عصابته الخاصة لسرقة البيوت، حيث اتخذ من "هارفارد سكوير" في بوسطن مقرا له.
قبض على مالكوم وأودع السجن بتهم منها السرقة وحيازة أسلحة نارية عام 1948م، حيث قضى في السجن ست سنوات ونصفا. وهناك بدأ البحث عن ذاته وانضم إلى جماعة "أمة الإسلام" بقيادة إليجا محمد. وفي السجن سيقرأ مالكوم مئات الكتب لول ديورانت ونيتشة وكانط، وغيرهم الكثير وسينسخ قاموس اللغة الإنجليزية كلمة كلمة لينمي مفرداته الخطابية والكتابية. خرج من السجن ليصبح ألمع الوجوه الإعلامية لـ"أمة الإسلام". وليخرج من أعماق اللاوعي الأميركي الأبيض أسوأ كوابيسه السوداء.
ورغم أن "أمة الإسلام" قد منحت مالكوم منبره الأول وإطلالته على العالم، فإن أمله سيخيب في زعيم الجماعة إليجا محمد، بعد اتهام الأخير بتجاوزات سلوكية. كما أن تسلط الأضواء على مالكوم وبزوغه قطبا لا تمل وسائل الإعلام من تلقف تصريحاته الخلافية سيثير حفيظة قياديي "أمة الإسلام" وسيزعج إليجا محمد.
ستضيق "أمة الإسلام" بمالكوم وسيضيق بها، ثم ستحدث القطيعة وسيتجه مالكوم للعمل مستقلا، وسيعتنق تعاليم الإسلام السني كما يمارس في المشرق العربي بعد رحلة حجه الشهيرة إلى مكة عام 1964م.
هذا هو مالكوم إكس إذن، تحول جذري بعد آخر، فبعد أن كان منهمكا بالتشبه بالإنسان الأبيض من خلال تنعيم شعره وتغيير مظهره، تحول إلى عنصري أسود، ثم بعد أن عاد من مكة صار مستعدا للتعامل مع البيض ومؤمنا بالمساواة بين جميع البشر.
وعلى مر السنوات لم يفقد قلقه الفكري وبحثه الدائم عن أجوبة، ورغم ذلك التجلد الظاهري ثمة تلك القابلية للتلمذة والبحث عن الأب الروحي أو القدوة. غير أن هذه الأبوات ستخذله وتطارده. وكما نبذه وطارده زعيم عصابته الأول في نيويورك "آرشي" بعد خلاف على لعبة ميسر، سينبذه أستاذه ومخلصه إليجا محمد بعد أن سطع نجم مالكوم.
ورغم جذرية التحولات وتغير الأسماء، ثمة خصائص لم تتغير في شخصية مالكوم: تلك الكاريزما الهائلة والقدرة على التأثير والتنظيم وبناء الجسور مع مختلف القوى والزعامات. وقبل دخوله السجن كما بعد خروجه.


وسواء كان يتحدث بالعامية الدارجة مع مجموعة من المجرمين أو باللغة الراقية لباحث متعمق بالعلوم الإنسانية على شاشة التلفاز، ستجد تلك القدرة الكبيرة على استعمال التعابير الصادمة القادرة على إيصال الفكرة بأكبر زخم ممكن وبصورة تقلب المفاهيم السائدة رأسا على عقب. إنها "قوة الكلمات" كما كان يسميها. وفي الواقع فإن كثيرا من عباراته وتحليلاته لا زالت تستجلب الاهتمام حتى اليوم.
وهنا لا بد من وقفة حول علاقة "أمة الإسلام" بـ"دين الإسلام" كما يعرف ويمارس في العالم الإسلامي. فنحن وان كنا لسنا بصدد إجراء تحليل شرعي لمعتقدات هذه الجماعة، فإنه من الواضح أنها تبتعد في مجملها عن كثير مما تعارف عليه المسلمون في المشرق، مما أدى إلى اعتبارها خارج دائرة التسنن أو التشيع بمذاهبهما المعروفة. يعتقد أتباع إليجا محمد أن الإنسان الأسود هو أصل البشرية، وهو الذي حكم الأرض منذ منشئها.
غير أن عالما شريرا اسمه "يعقوب" قام بسلسلة من التجارب الجينية، على مجموعة من السود المعزولين عن بقية العالم في إحدى جزر بحر إيجة استغرقت ستمائة سنة نتج عنها الإنسان الأبيض.
إسهام الحركة الأبرز ليس دينيا وإنما سياسي واجتماعي يتمثل بإخراج كثير من السود في أميركا من حالة الضياع والانحراف، بل وكره الذات، إلى حالة من الالتزام السلوكي والانضباط الأخلاقي والإيمان بهوية مشتركة، وتاريخ مفترض مجيد.
ومن آثار ذلك التحول الطهراني نزوع بعض الأميركيين السود، مسلمين ومسيحيين، إلى إطلاق الأسماء العربية والسواحلية على أبنائهم، وهو أمر موجود حتى اليوم.
لكن يبقى السؤال: من أين جاءت تسمية الإسلام التي ارتبطت بها الجماعة؟ مهما كان الأصل الإسلامي لهذه الجماعة، فلا بد أن جزءا من هذا الربط مع الإسلام جاء من باب التطهر من أدران العبودية والعودة إلى الجذور، على اعتبار أن الكثير من الأفارقة الذين استجلبوا إلى أميركا كانوا مسلمين أصلا.
غير أن في الأمر بعدا مهما آخر لا يتعلق بالسود وإنما بالإسلام نفسه. فعلى امتداد التاريخ، كان الإسلام معادلا موضوعيا لطغيان النظام الغربي ورافعة اجتماعية وسياسية للتغيير والمقاومة. هذه الخصيصة هي نفسها التي تدفع بالإسلام السياسي إلى المواقع الأمامية في الساحات العربية، وهي نفسها التي جعلت لبعض حركات الاحتجاج الأفروأميركي لونا إسلاميا.
وحتى يتضح الأمر بمثال بعيد عن الواقع العربي أو الخلفية التاريخية للأميركيين السود، للقارئ أن يتصفح موقع الإنترنت لتنظيم "الأمة الآرية"، وهي جماعة أميركية بيضاء عرفت بعنصريتها وإيمانها بتفوق العرق الأبيض، غير أنها مؤخرا تلونت بصبغة إسلامية، وصارت تبدأ بعض بياناتها بالبسملة وتنهيها بالتكبير وتتحدث عن "الجهاد الآري" ضد مؤامرات الصهيونية العالمية، وهيمنة رأس المال ومصالح الشركات والنزعة الاستهلاكية!
بل ذهبت أبعد في محاولة للتأصيل لعلاقة مزعومة بين الإسلام وهتلر، الأب الروحي للتفوق الآري، من خلال استحضار علاقة ألمانيا النازية بالمفتي أمين الحسيني، وتحميلها أبعادا لم تكن بها أصلا في عملية فبركة أيديولوجبة عجيبة! وسيكون لنا عودة مع الاستحضارات الطريفة لدور الحاج أمين في هذه السياقات من خلال قصة مالكوم إكس نفسه.
حدثت القطيعة إذن بين مالكوم و"أمة إلإسلام" عام 1964م. في ذلك العام قرر مالكوم أن يتوجه إلى مكة لأداء مناسك الحج ولمحاولة فهم الإسلام بعيدا عن أفكار إليجا محمد. وحقيقة فهذه الرحلة سيكون لها أثر كبير على مالكوم وعلى تطور الإسلام في أميركا حتى اليوم.


فالرحلة التي ابتدأت بصعوبات بيروقراطية وحجزه في المطار إلى حين التيقن من إسلامه، تحولت إلى سلسلة من الاحتفاءات بعد أن قام مالكوم بالاتصال بعمر عزام، نجل عبد الرحمن عزام باشا أول أمين عام لجامعة الدول العربية، حيث كان الاثنان، عبدالرحمن ونجله، مقيمين في المملكة العربية السعودية حينها.
عبد الرحمن عزام كان سياسيا ذا نظرة بعيدة في شؤون العالم العربي وعلاقاته الإسلامية وكان من المتابعين لنشاط مالكوم إكس، ونشأت بينهما علاقة ودية من خلال الدكتور محمد الشواربي المعار من جامعة القاهرة مستشارا للأمم المتحدة في نيويورك. الطريقة التي يصف بها مالكوم استضافته من قبل عائلة عزام والحفاوة التي لقيها من الحكومة السعودية في سيرته الذاتية، تستخدم لغة مختلفة عن اللغة السائدة في بقية الكتاب.
فهنا يختفي مالكوم الغاضب الحانق، ليظهر مالكوم آخر في غاية التأثر والحساسية، إذ يصف، بانبهار عظيم، التفاصيل الدقيقة للتكريم والحفاوة التي لقيها. تكريم من عرب ومسلمين يؤكد مالكوم أنهم كانوا من البيض. ويا له من تكريم سيكون له أبعد الأثر في نفس مالكوم الذي كان في ذروة أزمته الوجودية، وشعوره بالخذلان والظلم من رفاقه السابقين من السود ومن أميركا البيضاء على حد سواء.
التقى مالكوم في الزيارة بالملك فيصل بن عبد العزيز وبالعديد من الشخصيات السعودية والعربية والإسلامية. منهم، على سبيل المثال، الحاج أمين الحسيني مفتي القدس الذي تزامن حجه مع مالكوم (يسميه خطأً مفتي القدس العظيم حسين الأميني في السيرة الذاتية)، استحضر مالكوم الحاج الحسيني كشخص ذي شعر أشقر وعيون زرقاء. وهو أمر ذو مغزى في سعي مالكوم لتقديم نماذج تؤكد كون الإسلام لا يقتصر على عرق أو لون محدد.
يقول مالكوم في فصل "مكة" من سيرته الذاتية "كان هناك عشرات الألوف من الحجاج قدموا من كل أنحاء العالم، ومن كل الألوان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفريقيين ذوي البشرة السوداء.. ولكننا جميعا كنا نؤدي المناسك نفسها، بروح من الوحدة والأخوة، ما كنت أظن -بحكم خبراتي في أميركا- أنها يمكن أن تنشأ بين البيض وغير البيض".
ويقول أيضا "إن أميركا في حاجة إلى أن تفهم الإسلام، لأنه هو الدين الوحيد الذي يمكن أن يمحو المشكلة العنصرية من مجتمعها. لقد قابلت في رحلاتي في العالم الإسلامي أناسا يعدون في أميركا من البيض، وتحدثت معهم، بل تناولت الطعام معهم، ولكن النزعة البيضاء محاها من أذهانهم دين الإسلام، وما شهدت سابقا أخوة خالصة وصادقة كتلك الأخوة التي يمارسها الناس هنا من كل جنس بغض النظر عن لون بشرتهم".
لقد غيرت رحلة الحج مفهوم مالكوم عن الإسلام وعن الخلاف بين السود والبيض، وعاد إلى الولايات المتحدة بتصريحات تتبرأ من اعتبار البيض جميعا أشرارا لمجرد كونهم بيضا. هذا التحول وأفعال مالكوم بعدها أعطت المدافعين عنه ذخيرة كافية ضد محاولات موضعته في التاريخ الأميركي كعنصري أسود، وتأبيد الحكم عليه داعية للعنف والحقد الإثني.
فمالكوم اليوم هو أحد أعمدة تاريخ حركة الحقوق المدنية، مما سمح بإصدار طابع بريدي أميركي يحمل صورته عام 1999م اعترافا بدوره في تحسين أوضاع السود. ومع ذلك يبقى بعض الأميركيين البيض، خاصة من المحافظين، متشككا في مالكوم ورافضا لتقبله رغم كل شيء.
فتحت هذه الرحلة أيضا جسرا هاما لعبور الإسلام السني إلى قلب المجتمع الأسود، فمالكوم عاد من الحج داعيا إلى نبذ فكر "أمة الإسلام"، وقد تأثر به الكثيرون، لعل من أهمهم ابن إليجا محمد وخليفته في قيادة الجماعة، وارث الدين محمد.


رحلة الحج هذه أعيد تدوينها وإنتاجها في العديد من المراجع والوسائط، حيث إن مشاهدات مالكوم العربية والتآخي بين السود والبيض الذي شهده، والتكريم الذي لقيه من "إخوانه العرب"، بقيت من أهم ما كتب في إنصاف العرب من الصورة النمطية الشاذة والمتوحشة التي تغلب على وصف العرب في أميركا.
في الواحد والعشرين من فبراير قبل اثنين وأربعين عاما، وفي حي هارلم الشهير في نيويورك، اغتيل مالكوم إكس في ما بدا أنه انتقام "أمة الإسلام" من زعيمها المنشق.
ستعيش أسطورة مالكوم إكس حيوات كثيرة بعد اغتياله، وستدعي ملكيته أطراف كثيرة. فالمجتمع الأميركي الأسود سيعده أهم قادة النضال ضد التمييز العنصري بعد مارتن لوثر كنغ. وإن كان البعض سيفضله على كنغ ذاته على اعتبار أن ثورية مالكوم هي التي جعلت من كنغ طرفا مقبولا نسبيا لأميركا البيضاء.
واليسار العالمي سيشيد بانتصاره للإنسان المستضعف في أميركا وأفريقيا وآسيا، والمسلمون سيذكرون "الأخ مالك الشهباز" الذي كانت حياته تصديقا لنبوءة الإسلام وعبوره للقارات والإثنيات، والذي جذبت خطاباته النارية ومقابلاته التلفازية الساخنة عشرات الألوف للتعرف إلى الإسلام.
ستكتب عن مالكوم مئات المقالات والدراسات والكتب، وستسمى باسمه المدارس والكليات والجامعات، وبعض أهم الشوارع في نيويورك وبوسطن وغيرهما، وستحمل اسمه العديد من المنظمات السياسية والشبابية. سيبكيه الأفروأميركيون، ويترحم عليه المسلمون، ويمجد نضاله الرفاق، وسيعيد المخرج "سبايك لي" قصته إلى الأذهان من خلال الفيلم السينمائي المهم "إكس" عام 1992م الذي ولد موجة لم تنته من حمى مالكوم.
ورغم تعدد الدراسات حوله في الغرب، لم توثق قصة مالكوم في العالم العربي أو تدرس أو تنشر على نطاق واسع بعد. وكم سيكون مفيدا لو تم تدوين رحلتي مالكوم إكس العربيتين في العام 1964م ولقاءاته مع الملك فيصل بن عبد العزيز، وجمال عبد الناصر، وعبد الرحمن عزام باشا، وحواراته مع السفير الجزائري في غانا وغيرها.
هذه الاحتكاكات تستحق التحليل لأثرها في الحياة الأميركية وفي صورة العرب حتى اليوم، وتزداد أهميتها في عصر اختلاط مفاهيم الإرهاب بالإسلام، حيث تظهر صورة ايجابية للعرب ودينهم في رفض العنصريات والكراهية، بل والمساهمة في تجذر مفاهيم العدالة والمساواة في أميركا من خلال تصحيح أفكار مالكوم إكس قبل أقل من نصف قرن!


من أقواله :


لو اضطررت للتوسل إلى رجل آخر من أجل حريتك فأنت لن تنالها أبداً، الحرية شيء يجب أن تنالها أنت بنفسك





لقد تعلمت باكراً أن الحق لا يعطى لمن يسكت عنه، وأن على المرء أن يحدث بعض الضجيج حتى يحصل على ما يريد.


أنا لست عنصرياً ، وأنا لا أومن بأي شكل من أشكال التمييز العنصري ولا بأي شكل من أشكال التفرقه ، أنا أومن بالاسلام فقط .


لم أكن شيئاً سابقاً بدون الإسلام .

إلى الأمام أيها الجنس الجبار، بوسعك أن تحقق المعجزات.

اخرج إلى الشمس ودعها تمسح عنك هذا الشحوب.

ويقول عن العنصَرية :
إن حسن المعاملة لا تعني شيئاً ما دام الرجل الأبيض لن ينظر إلي كما ينظر لنفسه، وعندما تتوغل في أعماق نفسه تجد أنه ما زال مقتنعاً بأنه أفضل مني .

إن من خارج السجن ليسوا بأفضل منهم، وإن الفارق بينهم وبين من في الخارج أنهم لم يقعوا في يد العدالة بعد .

يقول عندما أسلم :
في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أمريكا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها .

دائماً ماكان يردد عبارة الملك فيصل
عندما قابله في جدّة بعد ذهابة لأداء فريضة الحج :
أن حركة أمة الإسلام بها الكثير من الأخطاء التي تتعارض مع الإسلام .

نسُبت إليه أقوال كثيرة عن الإسلام :

الإسلام هو الدين الوحيد الذي يملك حل المشكلة العنصرية فيها.

لقد أوسع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسعٍ وثلاثين سنة، رأيت كل الأجناس من البيض ذوي العيون الزرق حتى الأفارقة ذوي الجلود السوداء وقد ألّفت بين قلوبهم الوحدة والأخوة الحقيقية فأصبحوا يعيشون وكأنهم ذاتٌ واحدة في كنف الله الواحد.


الدين الوحيد الذي كان له القوة ما جعله يقف في وجه مسيحية الرجل الأبيض ويحاربها.

أنا الآن أعيش زمن الاستشهاد فإذا حدث ومت فإنني سأموت شهيد الأخوة وهي الشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ البلاد، لقد وصلت إلى هذه القناعة بعد تجربة شاقة ولكنني وصلت إليها.

..
كانت العبارة الأخيرة هي الأشهر له ، حيث بعدها بوقت قريبّ ، قتل مالكوم أكس بطريقة وحشية في منزله وهو جليساً مع عائلته بـ 16 عشر طلقة نارية مصوبة في أنحاء جسُده
يقول صديقه : بعدما نزعّنا الطلقات من جسده كان مبتسماً ووجُه ممتليء نوراً
ورافعاً لأصبعه السبابة ، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله .
رحّم الله مالكوم أكس ، أو الشيخ مالك شباز
فلقد ساهم في تنوير السوّد والبيض أيضا في عهدنا الحاضر
أول من أدخل دين الإسلام لتلك البقاع المظلمة المختلطة في ألوان الشعوب أعراقها .

،،
المراجع :
ويكيبديا.
قناة الجزيرة الوثائقية .
مالكوم إكس سيرة ذاتية لـ أليكس هايلي
موقع صيد الفوائد .
الحقيقة الممُكنة .
الرجل الأسود الغاضب .

موقع مالكوم إكس .


،،

شُكراً