الجمعة، 21 سبتمبر 2012

لغّتي



يظن الناس أن مفهوم الإبحار في لغات الأخرين وثقافتهم هي أمر محمود العواقب دائماً وهذا خطأ لأن الحياة تلزمك أن تتخلى عن طرف ثالث دائماً فالتشبث كثيراً بطرف يرخي الطرف الأخر ، أو يجعلك غارقاً في ثقافة الغير ويبعدك عن ثقافتك وأنت أهلُ لها و وطن وصاحب
وهذا هو الحاصل هُنا في بلادي كثيراً مانسى لغُتنا ونستخدم ألفاظ أو لغة أجنبية من بابَ التفَنن أو إلفات النظر ، أو حتى الإتقان .. أنجرفنا مع كل سيَل ومنحدر

اللغة كائن حي متغير متطور ما استمرت الحياة في مستخدميها، وقد شرف الله العرب بمزية لا يقدرها وللأسف البعض منهم، وهي أنه أنزل القرآن بلسانهم فتعلمت كثير من الشعوب اللغة العربية فأثرت فيها وتأثرت بها. والقرآن هو السبب الرئيس في كون كثير من الشعوب المسلمة تتكلم العربية اليوم. ولذلك فاللغة العربية هي الوعاء الأساس لكثير من الثقافات الإسلامية، ولعل أخرها ثقافة الدولة العثمانية التي كانت تكتب بحروف وكلمات عربية حتى وقت قريب. وكانت اللغة العربية في عصر النهضة الإسلامية هي اللغة السائدة Franca lingua في وضع أشبة بالإنجليزية اليوم. فاللغة العربية كنز ورثناه عن أجدادنا, وسيكون من العار علينا التفريط فيه, فضعف العربية اليوم ليس إلا انعكاسًا لضعف شعوبها.
ومن بين لغات العالم السائدة اليوم اللغة الإنجليزية، فقد نجح الإنجليز وبعدهم الأمريكيون من فرضها على الشعوب المستضعفة ثقافيًا واقتصاديًا كلغة للإعلام والسياسة والاقتصاد بالرغم من المقاومة العنيفة التي تجدها من الإسبانية والفرنسية والبرتغالية وغيرها. ويقدر علماء اللغة عدد الناطقين باللغة الإنجليزية في عام 1500م بأربعة ملايين فقط، وفي 1800م بثلاثين مليون، ويقد عدد المتكلمين بها اليوم بما يقارب المليار. وهي اللغة الرسمية في 60 بلدًا وشبه رسمية في 20 بلدًا، وهي لغة أفلام هوليود، والسي إن إن، ولغة الأعمال، ووكالات الأنباء الرئيسة. ويقابل عدد الشعوب التي تبنت الإنجليزية عدد مماثل للغات انقرضت أو هي في حالة شبه الانقراض لأن الإنجليزية حلت محلها، وقد انقرضت معها وللأسف ثقافاتها.

الكلام بلغة ما لا يعني التخاطب بها فقط، بل يعني كذلك تبني مخزونها الثقافي، وتبني تصورات مجتمعها وقيمه ومفاهيمه الأساسية للعالم والتاريخ. ولا يمكن أن تدخل لغة مجتمعًا ما دونما احتكاك وتلامس مع اللغة الأم لهذا المجتمع. فتعليم لغة أجنبية في مجتمع ما خطوة في غاية الأهمية والحساسية، ويجب أن يتواكب مع ترقية اللغة الأم بشكل يحل محل اللغة الأجنبية. ومكمن الخطورة هو أن تحظى اللغة الأجنبية بمكانة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أعلى من اللغة الأم. وغالبًا، وهنا مكمن الخطورة، فإن الإنجليزية تغزو المجتمعات المغلوبة بواسطة مفاهيم ترفيهية محببة أو علمية مهمة، ولذلك تكون لها لغة اختيارية مفضلة ترقى بمن ينطقون بها فتكون لها الغلبة في كثير من الأحيان على اللغة المحلية التي تقدم عبر مفاهيم قديمة وسياقات مملة لتمنع هذه المجتمعات من تبني التطور الذاتي وتفضيل استيراد التطور من الخارج اعتقادًا أن ما يرد من الخارج يمكن السيطرة عليه بشكل أكبر لأنه لا يلامس البنى الاجتماعية التقليدية.

وعندما تقحم اللغة الأجنبية، والإنجليزية خير مثل، بزخم قوي جدًا، كما حدث في كثير من البلدان نتيجة للانبهار بمكانتها الدولية، ويتحول المجتمع المحلي لمجتمع يعول كل التعويل على ثقافة اللغة المستوردة، فإن ذلك يعني ظهور ما يسمى «باللغة اللقيطة» Bastard Language نتيجة للتزاوج غير المنظور، وغير المتكافئ بين اللغتين في زيجة غير شرعية وغير متكافئة يتم من خلالها تلقيح اللغة المحلية بشكل عشوائي بتراكيب ومفردات أجنبية تزيدها ضعفًا وركاكة وتزيد اللغة الأجنبية بريقًا، وهكذا دواليك.

وأخطر ما يتصل بهذه القضية هو الانقطاع التدريجي عن الإرث الثقافي للمجتمع وتبني إرث اللغة الأجنبية على أنه هو الإرث العالمي للإنسانية والبشرية وليس إرثًا ثقافيًا لشعوب بعينها، وهو إرث العلم والفن واللهو، وهذا أمر في غاية الخطورة من حيث أنه يسري في جسد الأمة بتدريج غير محسوس واستدراج محبب للنفوس يجعل الثقافة تسري في جسد الأمة سريان المرض الثقافي بشكل غير منظور ولا تحس به. ولذلك فعلماء اللغة يرفضون مصطلح التغير اللغوي language change ويفضلون عليه مصطلح language drift والذي يعني الانجراف أو الانسياق اللغوي. فثقافة اللغة اللقيطة تتحول تدريجيًا لثقافة حائرة عاجزة في حالة تردد وانبهار دائمين فتزداد علة ومرضًا.

وفي أسوأ الأحوال يحدث انقطاع تام عن تراث الأمة وحالة من الاغتراب تتصادم فيها قيم الثقافة المستوردة مع القيم العنيدة الأصيلة التي تقاوم الزوال وتستعصي عليه. تلك القيم التي ينظر إليها القائمون على المجتمع على أنها المتاريس الأخيرة للدفاع عن تراثهم فيصاب النشء في هذه الثقافة بنوع من الانفصام الثقافي الذي يسبب له الكثير من القلق النفسي، ويجعله أكثر عرضة للتطرف الثقافي أو التمرد الاجتماعي. فهو يلقن نصوصًا جامدةً مملةً بلغته الأم، بينما يعلم نصوصًا حديثة معاصرة باللغة الأجنبية.

وما دام الشيء بالشيء يذكر، فهناك فريق من علماء الطب النفسي يرد كثيرًا من الأمراض العقلية لجذور لغوية، أي لعدم القدرة على التكيف اللغوي والمفاهيمي مع المجتمع المحيط على اعتبار أن لغة المجتمع هي الأداة الأساس للتواصل والتكيف الاجتماعي فيه. فاللغة أداة في غاية الخطورة، وهي كالأداة الحادة التي قد تقتل صاحبها إذا أساء استخدامها، لكن موتها بطيء وغير محسوس يرصده العارفون بأمور المجتمع واللغات.

وتعليم اللغة الأجنبية ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد المجتمع ولغته، أخطر منه تعليم اللغة الأم بشكل غير سليم، أو حشوها بألفاظ غير ذات معنى، أو ربطها بسياقات غير معاصرة. فاللغة أيضًا أداة التفكير الرئيسة، وتعتمد عليها العمليات العقلية الأساسية كالاختزال والاختزان، ومعالجة ما يختزل ويختزن في العمليات العقلية الأساسية. فاللغة السليمة هي أساس التفكير السليم، وليس الجسد السليم كما يقال. وما من لغة إلا وخلفها مخزون ثقافي يستطيع النهوض بها.

الشعوب المسيطرة، لا أقول المتقدمة لأن للتقدم جوانب كثيرة غير تقنية، تعي أهمية اللغة، وتعيرها اهتمامًا كبيرًا من حيث التعلم والتعليم، وكثير من الشعوب المكافحة قد لا تعي وللأسف هذه الأهمية، ولذلك ترى في اللغة مجرد أداة تخاطب آنية فقط تستطيع أن تنسلخ وتتجرد منها متى ما عنّ لها ذلك. وهذا الكلام غير دقيق وينطوي على كثير من الخطورة. ولذلك فالبعض يهمل الجانب اللغوي التربوي، ويرى أنه بالإمكان المزاوجة بين لغتين أو ضرتين في مجتمع واحد، وهذا أمر يعده كثير من الخبراء غير ممكن، والممكن، كما يجادل بعض الغيورين على لغتهم، أن تتم حماية اللغة الأم من هجمة اللغة الدخيلة بكافة السبل، وهذه عملية تتطلب الكثير من الدراسة والتخطيط. فتدريس اللغات الأجنبية قد يكون في بعض الأحيان مجازفة غير محمودة العواقب.



،،

شُكراً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق