الأحد، 30 سبتمبر 2012

مع الكُتب ..



مدخل

لقد كان اقتناء الكتب مفخرة للرجال والعلماء والوجهاء على مرّ العصور. وكانت خزائن الكتب لا تُعرف بشيء مثلما تُعرف بصاحبها؛ فيقال «الخزانة التيمورية»، و«خزانة الشنقيطي» و«مكتبة طوسون باشا» و«مكتبة حمد الجاسر»، و«مكتبة أحمد زكي باشا»، وهكذا. وكانت منزلة المكتبة مرهونة بكونها تحوي نوادر الكتب، والنسخ الوحيدة، وأوائل المطبوعات. وكم كان الرجل يضرب في الأرض شهورًا بحثًا عن كتاب أو سعيًا وراء مخطوطة. وكم كابد أصحاب الخزائن في سبيل تصنيفها وفهرستها وتهيئة دار تسعها. ولقد اكتسبت بعض المواضع شهرتها بسبب ما فيها من كتب، كما هي حال دير الإسكوريآل، ودير الدومينكان.

فلما كان العصر الرقمي صارت المسألة تتلخص في حجم ما تحويه الأقراص الصلبة للحواسيب من ملايين الملفات والكتب المصورة والكتب المبرمجة. ثم لم تعد حكايات الكتب النادرة أو الممنوعة تحظى بالقدر نفسه من الالتفات.

ففي العصر الرقمي لم يعد في مقدور أحد أن يحجب كتابًا أو يصادره أو يحد من انتشاره. ونتج عن هذا الوضع أن صارت بعض الكتب الورقية لا تجد من يشتريها، ولقد زرت أماكن في كاليفورنيا تبيع كل كتاب بدولار واحد، وكم شعرت بالحرج عندما كنت ألمح في عين البائع تردده في تناول الدولار من يدي.

وأنت عندما تدخل عالم القراءة تتلاشى لديك القيود وتنهار أمامك السدود. ومن الناس من يحاول -عن طريق الكتابة- أن يجعل من حياته حياة مهمة، ومنهم من يحاول الأمر نفسه ولكن من طريق القراءة. وإذا جازت هذه القسمة فأغلب ظني أنني من الصنف الثاني.

والقراءة مثل التصفيق في التجمعات العربية، تصفيقٌ يبدؤه شخصٌ واحد، فيتبعه آخرون، فيدوي المكان بالتصفيق. إننا نقرأ بعض الكتب أحيانًا لا لسبب سوى أن أشخاصًا آخرين تحدثوا عنها. وقد تُعطّلنا هذه القراءات عن كتب أنفع لنا وأولى بأوقاتنا. مع مراعاة أن وصف (الأنفع) هو وصف نسبي، يتوقف على حالة كل شخص وتكوينه الثقافي.

ولكأن نجيب محفوظ كان يصف حالي تمامًا عندما قال هو عن نفسه: «عندما كنت طالبًا بالمدرسة، كنت أصنع دائمًا قائمة تضم أهم الأعمال التي عليّ أن أقرأها، لكن مع قراءاتي كانت هذه القائمة تزداد طولا ولا تقلّ؛ فقد كان كل كتاب أقرؤه يفتح عيني على كتب أخرى أجهلها، وكنت أشعر دائمًا أن الجهل يطاردني وأنا أتعلق بأذيال معرفة بسيطة، رغم أنه لم يمض يوم في حياتي دون أن أحصل فيه على معرفة جديدة باستمرار».

وإن القراءة تستدعي القراءة، فإذا أعجبك الكتاب فإنك تسعى إلى إخوته من أعمال كاتبه، أو تبحث عن كتاب آخر في الموضوع نفسه. وإذا علمت أن فلانًا قد كتب ردًا على كتاب فلان، فإنك تسعى إلى قراءة الردود، ثم الردود على الردود. وكنت في أيام الطلب قد قرأت نحو عشرة ردود على كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، وأكثر من هذا العدد في الرد على كتاب محمد الغزالي «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث». ولم أزل أمارس تلك الهواية المرهقة، هواية قراءة النقائض في عالم الكتب.

ولا أعرف كتابًا أثار من الردود - ثم ردود على الردود- مثلما حدث مع كتاب «في الشعر الجاهلي». وهذا الاهتمام الفائق بالكتاب لم يفلح في التغطية على حقيقة كونه كتابًا متواضع القيمة من منظور العلم. وليس هذا موقف المتحاملين على طه حسين وحدهم، وإنما هو تقدير من يرون أنفسهم من تلاميذه.ومن يقرأ ذاك الكتاب اليوم يعجب لكل تلك الضجة التي أثارها. ناهيك عن أن كتابات شتى أثبتت أن الكتاب ما هو إلا تكرار لأفكار المستشرق مرجليوث.

وحين كنا صبيانًا لم تكن لنا الخيرة من أمر الكتب، كنا نقرأ من الكتب ما لا نختاره؛ فقد قرأنا كتبًا بعينها لأننا لم نجد سواها. والذين هم في مثل عمري وظروف نشأتي قد قرأوا -غالبًا- أعداد مجلة «reader’s digest» التي كانت تنشر بالعربية بعنوان «المختار»، ولعلهم أيضًا قرؤوا أعداد «مجلة المعرفة» التي توقفت عن الصدور في القاهرة منذ نحو أربعين عامًا. وربما قرؤوا أيضًا كتبًا من قبيل: «المنتخب من أدب العرب»، وكتاب «آثرت الحرية»، و«التربية الاستقلالية»، و«اعترافات جان جاك روسو»، و«سر تقدم الإنجليز»، و«صهاريج اللؤلؤ» للسيد توفيق البكري، وهو غير كتاب بالعنوان نفسه للراحل خيري شلبي.

لقد كانت هذه الكتب موجودة في محيط إدراكنا، هذا كل ما في الأمر. وبعد عقود من عمري أحاول أن أجد تفسيرًا لذلك؛ لماذا كنت أصادف هذه النوعية من الكتب تحديدًا؟ ومن الذي كان يضعها في مدى إدراكي؟

لم يطل الأمر على تلك الحال، فقد تعلمت من طول القراءات وتنوعها أن من الكتب ما هو ملوِّث للعقل، ومنها ما هو منتهي الصلاحية، ومنها ما يبطن غير ما يظهر، ومنها ما يحيرك أمره طيلة عمرك، ومنها ما يلازمك مثل لون جلدك وفصيلة دمك.

تعلمت أنْ ليس كل كتاب جدير بالقراءة، وليس كل كتاب يستحق الاقتناء. وفي الوقت نفسه علمت أن خزانة كتبي كانت هي الجامعة الكبرى التي تخرجت فيها. الجامعة التي لا تحدها حدود التخصص، ولا تقيدها قيود الدراسة النظامية، ولا تعوقها أنظمة الدبلومات والشهادات، ولا تقف دونها نظم الترقيات والدرجات.

حديث الشهرة

تولد شهرة الكاتب أو الكتاب ولادة طبيعية بسبب قيمته العلمية ومكانته في مجال تخصصه، لكن هناك شهرة مصطنعة تقف وراءها الماكينة الإعلامية ودور النشر التي تتفنن في صناعة الاهتمامات وتوليد الضجيج حول منتجاتها. لبعض الأسماء ضجيج مبالغ فيه في عالم الكتابة والنشر، فإذا ما وضعتَ أعمالهم على الطاولة وفحصتها فحصًا مدققًا فؤجئتَ بأنها أعمال ساذجة. والمستشرقون في معظمهم هم أكثر من تنطبق عليهم هذه السذاجة، وبخاصة عندما يكتبون عن دقائق مفردات الحضارة العربية في عصورها الزاهرة.

تحدث الناس كثيرًا عن صمويل هانتجتون وكتابه عن صدام الحضارات، لذلك تجدنا مسرعين إلى اقتناء الكتاب وقراءته، لكيلا نكون متخلفين عن النقاش العام الدائر من حولنا. ثم في النهاية نكتشف - وربما نقتنع- أن أطروحة الصدام هي أطروحة غير علمية، وربما هي مرفوضة سياسيًا وأخلاقيًا. ليست مرفوضة على نطاق واسع في وطننا العربي فقط بل وفي بلاد الغرب أيضًا.

وكانت قد علت أصواتٌ بكلام كثير عن رواية «وليمة لأعشاب البحر»، فصار هذا الكتاب تحديدًا من أغلى الكتب ثمنًا لمدة غير قصيرة. ولم يتمكن كثير من الراغبين في اقتنائه من الحصول على نسخة منه، لولا أن تجشم أحدهم عناء تصويره ووضعه على الإنترنت. ثم تنجلي القراءة عن رواية - هي في أحسن تقدير- متوسطة القيمة من منظور الإبداع الأدبي. ثم صار أمرها إلى النسيان.

وأما رواية أولاد حارتنا فأستطيع أن أقول إنها ليست من أفضل ما كتب نجيب محفوظ، لكن ما قيل وما كتب عن هذه الرواية يفوق أضعاف ما كُتب عن بقية أعمال الرجل. بل إن ما كتبه الكاتبون عن «أولاد حارتنا» قد يقارب حجم ما كتبه نجيب محفوظ طيلة حياته. ناهيك عن خرافة حظر طباعتها، فقد كانت هذه الرواية على الدوام متاحة على الأرصفة في مدينتي الأم (الإسكندرية). ولست أظن أن الطلب على أولاد حارتنا قد ازداد مؤخرًا بعد أن صدرت طبعة دار الشروق في مصر. وفي كل مرة أسأل محدثي: «هل قرأتها»؟ تأتيني الإجابة بالنفي. فهل يعقل أن يكون لأحدنا رأيٌ فيما لم يقرأ؟

وكم من الوقت شُغل أناسٌ بالبحث عن نسخة من كتاب «آيات شيطانية»، لا لقيمة الكتاب من الناحية الأدبية، ولكن فقط لحب المشاركة في الاهتمام الإعلامي والسياسي، ولمحاولة فهم ملابسات فتوى الخميني الشهيرة.

وبعدما حُكم على سيد قطب بالإعدام كان كتابه «معالم في الطريق» ينسخ باليد بواسطة الراغبين في اقتنائه. فلما صار الكتاب متاحًا لم يجد من يلتفت إليه إلا نادرًا. وهكذا يتضح كيف أن الجدال العام في المجتمع يدفعنا دفعًا إلى قراءة كتب بعينها، سواء كنا واعين أم غير واعين بآليات التحكم والسيطرة.

حديث الجوائز والترجمات

ما إن يُعلَن عن فوز كاتبة أو كاتب بجائزةٍ ما حتى يهرع الناشرون إلى طباعة أو إعادة طباعة عمله، مع حرصٍ بالغ على ذكر اسم المؤلف مقرونًا باسم الجائزة. ويسارع بعض القراء إلى شراء الكتاب الذي لم يكن ليلفت انتباههم من قبل. وبطبيعة الحال يستغل الناشر الحالة، فيضاعفَ ثمن الكتاب (صاحب الجوائز). إنها حالة شبيهة بمن يسعى إلى مشاهدة فيلم دونما سبب واضح لديه، سوى أنه فاز بإحدى جوائز الأوسكار. هذا كل شيء.

خذ مثلاً رواية «واحة الغروب» التي صدرت أول مرة عن دار الهلال بمصر، فما قرأها غير قلة نادرة من قراءجادين. فلما حصل بهاء طاهر على البوكر العربية سارعت دار نشر ثانية إلى إعادة طباعتها. وافتعل (نقّادٌ) سيولاً من تعليقات على الرواية. شيءٌ مما يشبه النقد، كُتب على عجل، بعضه للمجاملة، وبعضه لمواكبة الأحداث، ومعظمه كتبه أشخاص بحكم وظائفهم في الصحف والمجلات.

ولما صار باولو كويلو حديث الناس- في مصر على الأقل- هُرع كثيرون إلى اقتناء أعماله المترجمة إلى العربية. في حين أن واحدة من أجمل رواياته بقيت سنوات على أرفف مكتبة دار الهلال بمصر - قبل أن تتلقفها دور نشر أخرى- لا تلفت انتباهًا. أتحدث عن رواية «الخيميائي» التي نشرت بعنوان: «ساحر الصحراء».

وقد عاش خيري شلبي دهرًا ينشر طبعات شعبية في دار الهلال وفي الهيئة العامة للكتاب، لكنه بعد أن عرف جوائز الدولة صارت أعماله تحمل اسم كبريات دور النشر الاستثمارية، وبعد وفاته سارع ناشرون خارج مصر إلى إعادة طبع أعماله الأولى التي يصعب العثور عليها.

يتباهى المؤلفون والناشرون بحكاية الكتاب الذي ترجم إلى أربعين لغة عالمية، وبيعت منه مائتا مليون نسخة. وما من كاتب إلا وتجده حريصًا كل الحرص على أن يبرز على الغلاف أن أعماله سبق ترجمتها إلى لغة كيت وكيت. قد تكون الترجمات الكثيرة للكتاب مؤشرا على الاهتمام الواسع به، ولكني أعرف كتبًا تافهة لقيت من عناية المترجمين كل اهتمام. إنها السياسة قاتلها الله؛ فمن يدفع للزمار هو الذي يختار اللحن.

الانبهار بالأسماء

إنّ أوهام الكلمة المكتوبة لا تقل تأثيرًا عن أوهام الكلمة المكتوبة بلغة أجنبية، وكلاهما لا يقلان عن وهم الأسماء الأجنبية. ففي عالم القراءةيخطف الأبصارَ بريقُ الأسماء من أمثال: برنارد شو، وألبرتو مورافيا، وألكسندر دوما، وتشارلز ديكنز، وآرثر ميللر. إنه الرنين الصوتي أو الجرس الموسيقي للاسم، بغضّ النظر عن قيمة ما يُكتب، وبغض النظر عن كون القارئ يعرف شيئًا عن الكاتب. فالأسماء العربية ليس لها تلك الجاذبية أو تلك الهالة. فمن ذا الذي تجذبه رواية لكاتب يدعى حسن أو حمدان أو يونس أو مصطفى أو هزاع أو مقبل؟

وإن العبارة الواحدة إذا قيلت على لسان علم مشهور حازت من الذيوع والبريق ما لم تكن لتحوزه لو أنها سيقت هي نفسها على لسان واحد من غير المشاهير. وبالمثل فإن الكلام الذي يكتب بالإنجليزية اليوم يبدو للناظرين أكثر عمقًا مما لو قيلت ترجمته بنصه بالعربية. وفي جامعاتنا العربية أقسامٌ تتخذ من الإنجليزية لغة للتدريس في ظاهر الأمر، لكن الحقيقة التي أعلمها يقينًا - بحكم وظيفتي- أن لغة التدريس هنالك ليست العربية وليست الإنجليزية، ولكنها حالة من التعاسة اللغوية والإعاقة الذهنية والهدر التربوي. لا أتحدث عن كليات الطب بل أتحدث عن كليات الحقوق والتجارة والآداب.

الذي يدفع للزمار هو الذي يختار اللحن

عنيت بعض دور النشر عناية مريبة بطباعة عناوين بعينها، سعيًا وراء ربح مضمون، في استغلال ظاهر لغريزة البحث عن كل ممنوع ومرغوب. ومن ناحية ثانية صفّقت دوائر معروفة لمؤلفين بعينهم، وطبّلت لكتب بعينها، وزمّرت لقضايا بعينها. فكل من يكتب عن مطالب الأقليات- بالحق أو بالباطل- فهو مفكر كبير، بغض النظر عن ضعف قدراته الأكاديمية، وبغض النظر عن ضحالة تفكيره وتهافت أطروحاته وركاكة تعبيراته. وكذلك كل من يكتب عن بشاعة الختان فهو ليبرالي مرموق، وكل من يكتب عن حقوق المثليين في البلاد العربية فهو باحث قدير. وكل من يكتب عن حق المرأة في تولي مناصب القضاء ورئاسة الدولة فهو العلامة مجدد العصر. وكل من يتتبع هفوات الأقدمين وينقب عن سقطات التاريخ ومنعطفاته المثيرة للّغط فهو إمام المثقفين. وأما من يجمع (أعقاب السجائر من أزقة التاريخ) فلا مانع من أن يُمنح جائزة الدولة التقديرية من أموال دافعي الضرائب.

ومن عجائب التجارة بالأفكار أن تجد ناشرين تخصصوا في نبش الأكفان الثقافية التي طال عليها البلى، فتجد من يأتي بعد ستين عامًا ليعيد نشر كتاب مثل «كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية»، وكتاب «من هنا..نبدأ»، وكتاب «الإسلام وأصول الحكم». والأجيال الجديدة معذورة؛ إذ لا علم لها بما كان قد كتبه الراسخون في العلم ردًا على تلك الكتب التي يتم إعادة تسويقها - ويا للعجب- على أنها عنوان الحداثة وإنجيل الحداثيين.

كتب برخص التراب

صدق أو لا تصدق: عشرون كتابًا بخمسة جنيهات (أقل من دولار). حدث هذا مرارًا في القاهرة. ليس هناك سر، فقط يريدون التخلص من مخزون راكد لا يكاد يباع منه شيء. وإمعانًا في التضليل يتطوع أحدهم محاولاً أن يظهر الأمر وكأنه جهد من الحكومة لـ«تشجيع القراءة» و«دعم الثقافة»، إلى آخر هذه الكليشيهات الرسمية منتهية الصلاحية.

ولا تخلو المطبوعات المدعومة حكوميًا من مجاملات ومن انحيازات معروفة. وتكون النتيجة تلال من كتب غير مرغوب فيها، تطبع لفلان وعلان، مدير كذا، أورئيس مجلس إدارة كذا، أوعضو اللجنة العليا لكذا، أو الأمين العام لكذا. وهذه كلها ألقاب لا تشفع عند القراء شيئًا. ولا أحد يصدق حكاية تشجيع القراءة بين محدودي الدخل. فمحدود الدخل يحرم نفسه كل شيء من ملذات الدنيا إلا اقتناء الكتب.

لكن أي كتب؟ إنها ليست كتب الحكومة غالبًا، وليست مما يحرره كتبة السلطان. فالمطبوعات التي ترعاها الحكومة تسرق أعمار القراء، ومن يتشكك في هذا فلينظر ماذا تنشر الصحف اليومية الحكومية.

وكنت قد قرأت لأحد المشاهير قوله إنه امتنع عشر سنين عن قراءة الصحف، فتمكن خلال هذه السنوات من قراءة أمهات الكتب وذخائر المؤلفات وكنوز المعارف. إنني أتذكر هذا كلما مر بخاطري كيف أقلعت عن قراءة الصحف بضعة أسابيع، تمتعت خلالها بقراءة تسعة مجلدات كاملة من الموسوعة العالمية The World Book. حدث ذلك قبل أن تقتحم شبكة الإنترنت هدوء حياتي. وتلك قصة أخرى.

حرق الأدباء

لا يحرق الكاتبَ شيءٌ مثلُ إجبار الطلاب على دراسة كتبه في مقررات التعليم. فكم من كتب رائعة يزهد فيها القراء لا لسبب سوى أنها ضمن مقررات الدراسة النظامية.

ولقد خبرت - طالبًا وأستاذًا- كيف أن محتوى المنهج الدراسي لا يعبأ بروائع الأدب، بمقدار عنايته بأشتات غير مؤتلفات من نصوص لا تعبر عن واقع الإبداع الأدبي بقدر ما تعبر عن تصورات الموظفين الرسميين في وزارات التعليم.

العناوين الملتهبة

يبرع بعض الكتاب والناشرين والمترجمين في انتقاء عناوين من شأنها خطف الأبصار، بشكل يغطي على تواضع قيمة الكتاب. من هذه العناوين تلك التي تستخدم مفردات من قبيل «الأسرار» و«الخفايا» و«الدسائس» و«المؤامرات» و«الفضائح» و«الانحرافات» و«الجرائم» و«ما لم ينشر من قبل»!

ويجمع بعضهم في العنوان بين كلمات لا تجتمع معًا إلا في خيال ثمل. ومنهم من يجترئ على مقام الألوهية، ولولا خشية تزيين القبيح لذكرت نماذج من ذاك.

ومنهم من يتاجر بالكتب بمنطق مطاعم المأكولات السريعة؛ فتجد كتابًا يحدثك عن النظرية التي ستقلب نظم التعليم رأسًا على عقب، وآخر يقول لك إن كل أطفال المدارس هم عباقرة من نوع ما، وثالث يوهمك باكتشافات أثرية غيرت كل ما كان معروفًا من تاريخ الكتب المقدسة، ورابع يزعم أن الطبعة الجديدة هي الطبعة الوحيدة المحققة على عدة نسخ خطية عثر عليها مؤخرًا. إلى آخر تلك السماجة التجارية. ويتكشف لأولي العلم أن التحقيق المزعوم قد سبقه قبل عقود تحقيق معروف ومنشور ومتداول.

ومن العجائب في دنيا المقروءات أنك تجد المؤلف يموت فيتبارى القوم في الكشف عما لم يُنشر في حياته، وتمتلئ الصحف السيارة بعناوين من قبيل: «مسرحية مجهولة لشوقي» و«قصة لم يسبق نشرها لتوفيق الحكيم» و«ما لم ينشر من أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ» و«الجزء المفقود من كتاب....»، وهكذا يجد القارئ نفسه يلهث لكي يستكمل معلوماته أو ليكمل مقتنياته من عزيز المطبوعات. ويقتنص الناشرون الفرصة فيؤكدون على عبارة «الطبعة الوحيدة الكاملة مع استدراكات ما فات الطبعات السابقة».

ومنهم من يصدر الغلاف بعبارة: «بتحقيق فلان بن فلان»، هكذا دونما توضيح أو تعريف، وكأن هذا (الفلان) أغنى عن التعريف من أبي حامد الغزالي! ومنهم من يبرع في التدليس فيختار للمحقق المزعوم لقبًا يحاكي ألقاب أهل العلم في عصر هارون الرشيد؛ فتجد في أيامنا من يسمي نفسه «فلان بن فلان الحنبلي البغدادي المولد نزيل دمشق». وقرأت مرة عمن لقب نفسه بـ«أعلم أهل الدلتا بالنحو والصرف». وكم ذا في دنيا الكتابة والنشر من المضحكات.

استعباط الجمهور

من عناوين الكتب المفرطة في الاستغباء: «تعلم اللاتينية في أسبوع» و«اللغة الإيطالية بدون معلم» و«كيف تتحدث اليونانية بطلاقة في 3 أيام» و«كيف تصبح مليونيرًا» و«طريقك إلى الشهرة والنفوذ». ومن هذه النوعية من الكتب عشرات الإصدارات بعناوين من نحو: «كيف تصبح أديبًا» و«الطريق إلى العبقرية» و«كيف تكسب المال بدون تعب». ومازالت مشاكل العالم كما هي، ومازال الناشرون يطبعون أطنانًا من تلك النوعية من الكتب.

مصادرة يتمناها الكاتب

تولد الكتب في بلادنا ميتة، فإذا صودرت دبّت فيها الحياة. فكم من مطبوعات قرأناها لا لسبب سوى أنها أثيرت حولها مساجلات في الإعلام. وكم من كتب قرأناها لا لسبب سوى أنها كتب كانت قد صودرت يومًا من قِبل سلطات ما في بلد ما، دون النظر إلى جدواها أو مضمونها. وكم يتلهف الناس على الكتاب إذا سيق مؤلفه إلى المحكمة أو حتى السجن وربما المشنقة. في هذا السياق قُرئت كتب تسليمة نسرين وسلمان رشدي ومن قبلهم جوستاف فلوبير صاحب «مدام بوفاري»، ومن القدامى الحلّاج صاحب الطواسين.

يتمنى الكاتب لو صودر له كتاب. فالمصادرة هي الباب الذهبي إلى الشهرة والذيوع ومن ثم زيادة المبيعات. وعرفت مؤلفًا أذاع كذبًا أن السلطات قد صادرت كتابه، هذا في الوقت الذي تكدست نسخ كتابه في المعارض لا تجد من يعبأ بها؛ لأنه كتاب عاطل من أي علم أو فن أو رأي.

وكما أن هناك من يكتب بالمواصفات التي تزكيه لدى لجان الجوائز فإن هناك من يكتب بمواصفات تجعله في مواجهة متعمدة مع سلطات المصادرة. وعلى الجانب الآخر اشتهر ناشرون بتشجيع الأعمال المثيرة للجدل، والجالبة للمزيد من الأرباح.

وقبل نحو ستة عقود أراد أحدهم أن يطبع باكورة كتاباته، فاستدان ثلاثين جنيهًا، وضمها إلى راتبه الشهري، ثم راح يلتمس مطبعة تقبل بطبع الكتاب. ثم حان وقت التوزيع، ولم يكن من الميسور أن تقبل شركة للتوزيع كتابًا مغمورًا، لكاتب ينشر كتابه الأول، وبما لا يزيد عن ألف وخمسمائة نسخة!!

ولما قبلت شركة للتوزيع التعامل مع المؤلف الناشئ، برزت الحاجة إلى الإعلان عن الكتاب والدعاية له. فتبرع صديقٌ له بثمن إعلان في صحيفة. كان الإعلان «لا يوصف بصغر الحجم؛ لأنه لم يكن له حجم على الإطلاق.. ونُشر الإعلان، وكأنه لم ينشر». ولم يشعر أحد في البلاد بصدور الكتاب، إلا المؤلف وصاحب المطبعة.

فلجأ الرجل إلى حيلة قديمة من حيل برنارد شو، الذي كان يؤلف الكتب ويدبج المقالات حينًا من الدهر، فلا يلتفت إليه أحدٌ قط. فهداه التفكير إلى أن يكتب المقالات بتوقيعه الحقيقي، ثم يتبعها بمقالات - باسم مستعار- يسبّ فيها ويسخر من هذا المدعو «برنارد شو» المارق السفيه الذي يعرض حياة المجتمع للخطر الداهم.

استعار صاحبنا تلك الفكرة من برنارد شو، فاختار من أصفيائه طالبًا في دار العلوم، وشرح له كيف أن كتابه راكدٌ لدى الموزعين، «لا يتحرك بين أيدي الباعة ولا تقع عليه العين في زحام الحياة». وكان هذا الطالب مهيئًا لأن يكتب مقالاً في نقد الكتاب، لا يترك كلمة وقحة إلا أقحمها عليه.

لقد فهم الطالب المهمة المنشودة، فراح يستعرض قدراته في توظيف قاموس الهجاء والسباب والشتائم. وأدى المهمة بامتياز، وراح يكيل القسوة في نقده المصطنع، فاستدعى كل ما يحفظ من وقاحات، وزركش بها مقالته، التي برزت للناس بعنوان: «كتاب أثيم، لعالم ضالّ».

وما إن نُشر المقال، حتى انهالت المقالات كالمطر، تهاجم الأستاذ الذي صار فيما بعد مشهورًا غاية الشهرة. وأغلب مَن كتبوا عنه لم يقرؤوا كتابه، وإنما قرؤوا مقالة الهجاء فقط، فأعادوا إنتاجها. ثم جاءت (البُشرى) بأن الشرطة تجمع نسخ الكتاب من الأسواق. ودارت الأيام، واشْتُهِر الكتاب، وطبع منه طبعات عدة؛ ومازال يعاد طبعه حى يومنا هذا. أجل! تولد الكتب في بلادنا ميتة، فإذا صودرت دبت فيها الحياة.

حيلة «برنارد شو» تبدو اليوم ظريفة و- ربما- مقبولة، وبخاصة إذا عرفنا أن بعض (النكرات) قد طوروا طريقته إلى اختلاق مزاعم بتلقي (تهديدات بالقتل من مجهول عبر الإنترنت). وللناس فيما يخترعون من الإفك مذاهب. إن السواد الأعظم من الناس لا يملكون الوقت ولا القدرة على اكتشاف الخداع أو تتبع الأكاذيب عبر السنين.

وتظل بعضُ الكتب لعنةً تطارد كاتبيها وناشريها أبد الدهر، أو قل إن من الكتب ما يبقى «خطيئة جارية» إن جاز التعبير. وكم من مؤلف تتمنى نفسه أن يبيد بيده ما كان قد كتبه بيده ذات يوم. وكم حدثنا التاريخ البعيد والقريب عن مؤلفين أحرقوا مؤلفاتهم أو أوصوا بحرقها أو بعدم قراءتها أو أوصوا بعدم نشرها. ومن المؤلفين من مات ولم يعرف الناس شيئًا عن معظم ما كتبوا.

وهكذا يبوء الكاتب بالإثم، ويفوز القارىء بالمغنم في كل حال؛ فإما أن يستفيد خيرًا يحمد الله عليه، أو يتكشف له خَبث يتنزه عنه.

في النهاية .

للكتب سُحر خاص .. لغة أخرى هي لغة الأقتناء ناهيك عن جمّال القراءة في كتابَ مميز أو نادر
أذكر أن والدي كان يفخر على أصدقائه بأنه الوحيد من بينهم الذي يملك مجموعه سير أعلام النبلاء كاملة بـ طبعُه قديمة .
وأيضا أخر من أصدقائه يملك كتاب الروح لأبن القيم طبعة 1867 م قديمة .. حتى أنها مكتوبة بالألة الكاتبة .. وبعض الكلمات معدلة بخط اليد .
.. لست أعلم ما سُرهم لكنهم يرون أن الكتب هي حياتهم وعشقهم الخاص .. وأنا أيضاً ، أرى أن الأدب هو عشيقتي والكتابة هي زوجّتي !


شُكراً
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق