الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

نكهّة الجوع




أعطُني خبزًا وأسقني أمل ..
وأمنع الماء عنيَ فهو يبدد الكللّ
رُتب ماشئت من كلإم
فالجياع لايعرفون ، المنّام ..
أطعمُنا ولك الولاء والفدآء !
**
Crow



بداية :


لو استمعنا إلى المقرر الخاص للحق في الغذاء لدى مفوضية الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان، عالم الاجتماع السويسري جان تسيجلر، لوجدناه يقول بصراحة غريبة، إن الغرب بشركاته العملاقة، وهيمنته على الاقتصاد العالمي، هو المسؤول الأول عن الفقر في العالم، وعن موت الجياع، ولذا لم يتورع في أن يعطي كتابه الأخير عنوان: (كراهية الغرب)، وهو الكتاب الذي احتل مرتبة متقدمة بين أكثر الكتب مبيعًا في العام الماضي، وحصل على جائزة حقوق الإنسان العالمية في فرع الأدب.




كعك بالطين ومرق بأرجل الدجاج :

رأيت بعيني في سوق دولة عربية، من لا يقدر على شراء اللحم، أو حتى العظام، فيكتفي بشراء أرجل الدجاج ليعمل عليها مرقًا، ويكون في الطعام مذاق له علاقة بمرق اللحم ولو من بعيد.
لكن ما لم تره عيناي، ولم أتخيله من قبل، ما أكله البروفيسور تسيجلر، المواطن السويسري، الذي ارتضى أن يجرب ما يأكله الفقراء في دولة هايتي، والتي يعتبرونها وجبة أساسية هناك، حيث تقوم النساء بخلط الخضراوات وبقايا الفاكهة مع الطين، نعم «الطين» ويتركون هذا الخليط يجف تحت أشعة الشمس، ثم يقومون بتقطيعه وبيعه إلى من لا يملكون ثمن الدقيق والذرة، ويضيف تسيجلر بسخرية مريرة أن هذا الخليط «يعزز الوهم بتناول الطعام، ويسد المعدة، ويحجب الشعور الطاغي بالجوع.»
وتذكرت ما أشيع من حديث عن أزمة الخبز في دولة عربية، اقتضت تدخل رئيس الجمهورية نفسه، والقوات المسلحة، حتى يجد الناس رغيف الخبز المدعم، وطوابير من البشر يقفون من ساعات الفجر الأولى للحصول على رغيف الخبز، قبل أن ينفد. وفي نفس الدولة تدخل محلات السوبر الماركت، لتجد ما لا يقل عن عشرين نوعا من الخبز، متوفرة لمن يملك الثمن، وهم كثيرون، كثيرون جدًا، ناهيك عن الفنادق التي توفر أنواعًا من الخبز لا يعرفها العامة.





لا مكان للفقراء في هذا العالم:

وعودة إلى الخبير السويسري، الذي يقول إن الضحية الكبرى لأزمة الغذاء، هم الأطفال الصغار، الذين يموتون جوعًا، أو يتسبب هذا الجوع في الشهور الأولى من عمرهم، في إصابتهم بعاهات في المخ لا تزول، حتى ولو أمكن إطعامهم بعد ذلك بصورة طبيعية، ويشير هنا إلى أن هناك شخصًا يفقد بصره كل أربع دقائق، بسبب نقص فيتامين (أ)، وأن عدد الأشخاص الأكثر جوعًا في العالم، ارتفع للمرة الأولى إلى ما فوق المليار شخص.
وفي مقابل قيام زعماء الاتحاد في قمتهم في باريس بتاريخ 12 أكتوبر 2008م، بتخصيص مبلغ 1700 مليار يورو، لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، انخفضت ميزانية برنامج الغذاء العالمي من ستة مليارات في عام 2008م، إلى أربعة مليارات في عام 2009م، الأمر الذي تسبب مثلاً في إلغاء وجبات الطعام التي كانت المدارس في بنغلاديش تقدمها للتلاميذ، وهي التي كانت تمثل الوجبة الرئيسية الوحيدة في يومهم، في الوقت الذي تدل فيه الإحصائيات على أن المحاصيل الزراعية العالمية، تكفي لإطعام اثني عشر مليار شخص، أي ضعف عدد سكان الكرة الأرضية، لذا يتحدث تسيجلر بكلمات واضحة قائلاً: «الطفل الذي يموت جوعًا اليوم، هو قتيل، فالجوع اليوم هو من صنيع البشر».


صناعة الجوع :

هل يمكن أن تتخيل أن الأشخاص الغربيين المتحضرين الذين يرأفون بالحيوان، وينشئون الجمعيات الخيرية في كل مكان، هم نفس الأشخاص الذين يتحملون مسؤولية موت الأبرياء جوعًا، أو على الأقل يسهمون بصمتهم عن قيام حكوماتهم المنتخبة بعمل ذلك، وحين يقوم صندوق النقد الدولي بجدولة ديون الدول الأشد فقرًا، يفرض عليها زراعة منتجات معينة للتصدير، تحتاجها مصانع الغرب، فدولة مثل مالي مثلاً، تضطر لزراعة القطن، وصدرت في عام 2008م، حوالي 380 ألف طن من القطن، بدلاً من زراعة الحبوب التي يحتاجها السكان المحليون، واضطرت مالي لاستيراد 70 في المائة من المواد الغذائية من الخارج، واشترت الأرز مثلاً من تايلاند، واضطر السكان في مالي لانتظار ثلاثة أشهر بعد موسم الحصاد، لأن وصول الأرز بالسفينة يحتاج إلى هذه المدة.
حتى الدول النامية التي تقوم بزراعة محاصيل زراعية، فإنها تعاني من نقص السماد الجيد، والماكينات الزراعية اللازمة، فمثلاً يحصد المزارع في بوركينا فاسو الإفريقية حوالي 600 كيلو جرام من الحبوب، إذا زرع مساحة قدرها هكتار، في حين أن نفس المساحة تعطي في دول غرب أوروبا حوالي عشرة أطنان من الحبوب.
الجريمة الثانية التي يرتكبها الغرب، حسب تسيجلر، هي المساعدات التي تقدمها الدول الصناعية لقطاعها الزراعي، ويشير إلى أن مجموع هذه المساعدات بلغ في العام الماضي وحده، 349 مليار دولار، ليحصل المستهلك الغربي على منتجات زراعية بأسعار زهيدة، وما يتبقى من هذه المنتجات يشق طريقه إلى الدول الفقيرة بأسعار منخفضة للغاية، تؤدي إلى عدم قدرة المزارع الإفريقي على بيع محصوله، الذي لم يجد من يقدم له المساعدة المالية السخية، ليستطيع المنافسة في السوق، ويصمد أمام المنتجات الأوروبية.
ويشير إلى أن كارثة ثالثة عرفها العالم، بعد الأزمة المالية العالمية، حيث وجد المستثمرون أن قطاع العقارات لم يعد مضمونًا، فانتقلوا إلى المضاربة على المنتجات الزراعية، وارتفع حجم هذه المضاربات من عشرة مليارات دولار في عام 2000م، إلى 175 مليار دولار في عام 2008م، وحقق المضاربون أرباحا خيالية من جراء الصفقات الآجلة، وانتشرت في المصارف السويسرية صفقات الأرز، وارتفعت أسعاره، وفقد فقراء الهند والمكسيك والبرازيل آخر ما كانوا يستطيعون الحصول عليه من الطعام، حتى تمتلئ جيوب الأثرياء بالمزيد من الأموال، ولذا فإنه ليس من المستغرب أن تمتلك أكبر 500 شركة عالمية، أكثر من نصف الناتج المحلي على مستوى العالم، وأن يتم حرق 120 كيلو جرامًا من الأرز لإنتاج 50 لترًا من الوقود البديل عن النفط، تكفي لتعبئة خزان السيارة مرة واحدة، وتكفي لإطعام طفل في دولة فقيرة لمدة عام بأكمله، ويذكر تسيجلر أن الولايات المتحدة حرقت في عام 2008م حوالي 138 مليون طن من الذرة ومئات الملايين من أطنان الحبوب، لإنتاج الوقود الحيوي، المعروف باسم الإيثانول، لكي لا تحتاج إلى النفط القادم من الدول العربية.



الكراهية العقلانية والكراهية المرضية:

وحتى لا يظن القارئ أن تسيجلر يتفق مع الجماعات العنفية المتطرفة التي تكره الغرب أيضًا، وتجعله المسؤول عن كافة المشاكل في العالم، وتبرر بكراهيتها الأعمال الإرهابية الموجهة ضده، فإنه يوضح أن هناك كراهية عقلانية تختلف عن تلك الكراهية، وهذه الكراهية العقلانية نابعة من رفض الظلم الواقع على الأشخاص، فهي كراهية موجهة ضد ما يقمع البشر، وليس ضد من يقمعهم، وتهدف هذه الكراهية إلى تصحيح الأوضاع.
ويقترح مثلاً أن يسن الغرب من القوانين ما يمنع المضاربة في المحاصيل الزراعية، أو أن يفرض الناخبون على حكوماتهم عدم ابتزاز الدول الفقيرة، وأن تتنازل عن ديونها، وأن تتوقف عن استغلال هذه الدول، بتوقيع عقود مجحفة في حق شعوب هذه الدول، مثل عقود استغلال المناجم في بعض الدول الإفريقية، وألا تفرض عليها زراعة محاصيل تحتاجها مصانعها، وإذا لم تستجب الحكومات الغربية لتلك المطالب الإنسانية العادلة، فيجب أن يعاقبها الناخبون بعدم التصويت لها، وعندها ستحترم الحكومات إرادة الناخبين، ويتنبأ تسيجلر بأن «صحوة الضمائر، قادمة لا محالة»، مشددًا على أنه «لا يجوز أن يكون هناك شعور بالعجز في الأنظمة الديمقراطية».
ويؤكد تسيجلر على ضرورة أن تفتح الدول الغربية أبوابها للاجئين القادمين من دول، يتهددهم فيها الجوع، وألا يقتصر اللجوء على أسباب سياسية فقط، ويبدي تفهمه لما يقوم به شباب دول العالم الثالث من السعي للوصول إلى أوروبا بأي شكل، ولو كان بطرق غير شرعية، تهدد حياتهم، من أجل الوصول إلى مكان يضمن لهم العيش بدون جوع.



النهاية :

أتذكر قصة الواعظ الذي كان يتحدث في الميكرفون المسموع في الشارع عن أهمية الصدقة، والعطف على الفقراء، وسمعت زوجته حديثه المؤثر، وكانت تجهز الطعام، فطرق الباب شحاذ، يطلب أن تعطف عليه، فأولاده جياع، وهو عاجز عن العمل، فناولته كل الطعام الذي أعدته، فلما عاد الواعظ من الخارج، وشم رائحة الطعام من الخارج، سال لعابه، فلما دخل وعلم بما فعلته زوجته، قال لها: «علينا القول، وعليهم العمل». فهل نكون مثل الواعظ، أم نقتسم ما أعطانا الله مع الفقراء؟ كل هذه التواريخ والأرقام والأحصائيات والأحاديث ، لهي مجُرد واقع نعيشه ونراه
منذو 2000 إلى 2012 فترُتنا الحالية .. ونحن نسمع صرخُاتهم تصوّل وتجول
حتى أنه لامست بلاد المسلمين .. ولو سألت نفسك كم هُناك شخص لايجد حتى " الطين" الذي يأكله .. لأيقنت أن عُمر بن عبدالعزيز .. ذلك الزاهد المسلم المؤمن .. ماكان إلا محض أسطورة
بجانب .. أهل الرفاهية والأمن .. وأصحاب الولاء للأوطان !




شُكراً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق