الخميس، 6 سبتمبر 2012

فريداً يا وحيّد


حيث .. الله
حيث الحياة ، هناك في مقلتَا أم لاتكفَ عن البكاء ،
ترتدي جلالاً فضفاضاً للصلاة .. تصلي خُشية أن يزفوا إليه خبراً
يجعلَ وتيرة صوتها متقطعَة مع المعبَود .. يجعلها ترحل من سُكون إلى جنون .
إلهي كُن لطيفاً كريماً عوناً للُمنتظرين من الأمهات والمساكين .

Crow

..


قناة تلفزيونية ليس فيها، على مدار الساعة، سوى لقطات متتابعة لرجل شبه عارٍ، يتجوّل وحيدًا في أنحاء جزيرة بعيدة. ونقاشات بين مجموعة من الباحثين حول هذا الرجل وحياته الغريبة على تلك الجزيرة. المشهد على شاشة التلفزيون كان معتادًا للصبية الذين لم يتجاوزا الخامسة عشرة، فقد ألفوه منذ أن وعوا. لكنه ليس كذلك بالنسبة للكثيرين ممن هم في عمري، ممن عاصروا بداية الحدث.
كنتُ يافعًا في الثامنة عشرة عندما بدأ الحدث وأُعلن عنه. شاهدته كما شاهده الناس في كل مكان من العالم، من خلال البث المرئي عبر شبكات المعلومات ومحطة التلفزيون التي خصصوها لمراقبته لحظة بلحظة. كان في أول مشهد له مخدّرًا يرقد في سبات عميق في أحد المراكز الطبية البحثية. أفقدوه الذاكرة تمامًا، بعد أن صوبوا شعاعًا من الليزر إلى دماغه، فانتزعوا منه كل معلومة سابقة، وكل خبرة حياتية مكتسبة، وكل علاقة له تتصل بأحد من البشر.
انقسم الناس حول الحدث في وقتها، بين مؤيد ومعارض، حينما تم تخديره عنوة، وإفقاده الذاكرة، وحمله وهو في سباته العميق إلى تلك الجزيرة المعزولة في المحيط الهندي. وهناك أنزلوه ولم يزل في حالة مستغرقًا في حالة السبات. طرحوه بهدوء على الرمال الناعمة على شاطئ الجزيرة، عاريا مجرّدًا من كل شيء حتى من ذاكرته. وانصرفوا عنه، بانتظار إفاقته.
كانت الجزيرة بيئة طبيعية متكاملة، أشجار وحشائش وحيوانات أليفة وأخرى متوحشة وكهف اصطنعوه ليسكن إليه الإنسان الذي سيعيش عقودًا من السنين على تلك الجزيرة، ونبع من الماء القراح. كان وحيدًا ولكن الناس جميعًا يشاهدونه ليل نهار، بفضل شبكة من مئات الكاميرات ذاتية الطاقة المخفية في الجزيرة. كاميرات موجودة تحت الرمال، وأخرى في قلب الصخر، وفي جذوع الأشجار، وبين الزرع، وفي أطراف الجزيرة على السواحل وتحت المياه وفي كل مكان على الجزيرة. كانت الكاميرات صغيرة جدًا بحجم العدسة، تستطيع التقاط الصورة حتى في الليل، لا سلكية في نفس الوقت، تنقل الصورة مباشرة إلى القمر الصناعي الذي يعيد بث المشاهد عبر قناة تلفزيونية مخصصة.
- «ما الهدف من التجربة؟» سؤال وجهه إليّ الطالب «نبيه»، أحد طلبتي الذين أتعلم وإياهم كمرشد وموجه لعملية التعلّم التزامنية عبر شبكة تعليمية إلكترونية.
بدت الشاشة مقسّمة أمامي إلى عشرين مربعًا، في كل مربع يظهر طالب واحد من أولئك الطلبة الذين يتوزعون في أنحاء متفرقة من المدينة. قبل حوالي مئة سنة كان الطلبة يجتمعون في مكان واحد يطلق عليه المدرسة. لقد أضحى التعلّم عبر الشبكات الحاسوبية هو القاعدة، أما الاستثناء فهو لقائي الشهري لمرة واحدة مع الطلبة في مركز تعلّمي مخصص للقاء كل مرشد مع طلبته.
سؤال «نبيه» كان وجيهًا في تقديري، فقد كان يسألني عن سر الرجل الوحيد الذي يظهر على شاشات التلفزيون يتجول ليل نهار في جزيرة معزولة. وسؤال «نبيه» وجيه في نظري أيضًا، لأنه جاء قبل أوانه، وفي وقت مبكر، حيث كان برنامج الطلبة التعلّمي مزدحمًا بالمقررات المصممة في تتابع معد سلفًا. لكنني بادرته بسؤال قبل أن أجيب عن سؤاله، فالتعلّم الذي أمارسه مع طلبتي قائم على الحوار حتى الوصول إلى المعرفة.
- «وهل ترى أنها تجربة يا نبيه؟».
- «ألا يظهر في ركن شاشة التلفزيون عنوان دائم: «تَجْرِبَةُ وَحِيدٍ»؟».
- «نعم، ولكن هل تعرف ما تعنيه كلمة تجربة في العلم؟».
- «التجربة العلمية هي القيام بإجراء مقصود، وتسجيل النتائج الملاحظة أثناء وبعد القيام بذلك الإجراء».
- «وهل ترى التجربة خيّرة على الدوام؟».
- «نعم فالتجربة خيّرة على الدوام، بافتراض خيرية العلم الذي يستهدف خير الإنسان».
- «أحسنت، ولكن مجموعة الباحثين، ولا أود تسميتهم علماء، الذين قاموا بإفقاد هذا الرجل ذاكرته وتراهم على شاشة فرعية في أوقات متفرقة يعقدون الجلسات النقاشية تلو النقاشات... ».
- « الذين أفقدوه ذاكرته؟! وهل يفقد المرء ذاكرته؟!!». قاطعني هذا السؤال الملحّ الذي ظهر على شاشتي قادمًا من أطراف شبكة التعلّم العشرين التي تنتهي إلى كل واحد من طلبتي.
أرسلتُ برمجيّة تعلّمية إلكترونية إلى طلبتي، كنت قد صممتها سابقًا حول الدماغ. كان محتوى البرمجية تفاعليًا يستطيع كل طالب من خلاله، وفي زمن أقصاه ساعة واحدة، أن يعدّد أقسام الدماغ، ويحدد الأجزاء المسؤولة عن الذاكرة.
بدأ الطلبة في العودة تدريجيًا إلى فصلنا الافتراضي التزامني، وطلب «نبيه» الحديث:
- «عظيم أيها المرشد، إذًا فقرن أمون يمثل جزءًا من الدماغ مسؤولًا عن الذاكرة».
- «نعم ولذلك فإن ضمور هذا الجزء من الدماغ، مع التقدم في العمر، يؤدي إلى الخرف وضعف الذاكرة تدريجيًا لدى المسنين، وعليه فإن التدخل الطبي في هذا الجزء من الدماغ، قد يؤدي إلى محو الذاكرة تمامًا». وواصلتُ حديثي إلى الطلبة:
- «ولذلك فإن التدخل طبيًا وبطريقة معينة يمكن أن يُفقد المرء الكلمات والذكريات والعلاقات الإنسانية فقط، دون أن يفقده القدرة على المشي أو الجري أو القيام والجلوس أو التآزر الحركي».
- «ما الهدف من التجربة؟» ما زال سؤال «نبيه» قائمًا. وبعد أن تأكدت أن جميع الطلبة قد انضموا للفصل الافتراضي، بدأت بعرض فيلم وثائقي عن بداية التجربة، وأهم مشاهدها وتطوراتها، تاركًا لطلبتي متابعة الفيلم، دون تدخّل بتعليق أو خلافه.
مجموعة من علماء النفس والاجتماع والأنثروبيولوجيا تشكّل فريقًا علميًا برئاسة «البروفيسور فريد»، يتقدم إلى «مركز أبحاث البوتقة» بمشروع تجربة علمية، تستهدف التعرّف والرصد الدقيق لتطوّر سلوك الإنسان عندما ينشأ بمعزل عن الناس والحياة الاجتماعية، وكيف يتفاعل الإنسان مع بيئته وحيدًا، بدون أية قيم أو عادات مكتسبة من المجتمع. ولذلك لابد من إفقاد واحد من بني البشر لذاكرته ووضعه في مكان معزول، ومن ثم تسجيل تفاعله مع البيئة لحظة بلحظة ومراقبة التطور في سلوكه وتفسير السلوك البشري تفسيرًا علميًا موضوعيًا، بعيدًا عن أية افتراضات أو تعليمات دينية أو اجتماعية سابقة. وحتى يشهد العالم كله تلك التجربة، فقد جرى بثها حية على الهواء عبر قناة تلفزيونية خاصة، مع برامج تلفزيونية نقاشية مصاحبة على مدار الساعة، لإتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من ذوي التخصصات المختلفة في شرح وتفسير سلوك ذلك الوحيد.
أعلنوا عن التجربة طالبين شخصًا متطوعًا، ولأن التجربة مخيفة، خصوصًا فيما يتعلق بالدماغ، فلم يتقدم أي متطوع. لذلك قرروا إجراء التجربة على أحد السجناء الذين اقترفوا جريمة كانت عقوبتها السجن المؤبد. بدا مشهد السجين الذي تلقى خبر إجراء التجربة عليه مؤثرًا للغاية، وهو يصرخ في هياج من زنزانته:
- «أريد السجن، ولا أقبل بذلك!... أنا لا أقبل، لا أقبل!!»
- «لن نستفيد من حبسك، لكنك ستكفّر عن جريمتك، بإسداء خدمة للعلم، ستكون موضع التجربة». وكان الذي يحاور السجين هو «البروفيسور فريد» نيابة عن فريق التجربة و«مركز أبحاث البوتقة» و«مجلس المدينة».
- «فأر تجربة بعبارة أخرى... أنا لا أقبل، هذه أبسط حقوقي كإنسان!».
- «كإنسان؟!»، وضحك البروفيسور بخبث واستهتار.
كان قرار «مجلس المدينة» حازمًا، ومؤيدًا لفكرة «البروفيسور فريد» واقتيد الرجل إلى المركز الطبي التابع لمركز أبحاث البوتقة، وهناك تم حقنه بمخدر، ثم إفقاده الذاكرة، ونقله إلى الجزيرة المعدة خصيصًا كبوتقة كبيرة للتجربة.
صحا «وحيد» من سباته العميق، وفتح عينيه، ولم يزل مستلقيًا، أجال عينيه يمينًا ويسارًا في سماء الجزيرة الغائمة، كان الوقت منتصف النهار تقريبًا. ظل مستلقيًا لدقائق معدودة، ثم اضطجع يمينًا، ومد بصره إلى وسط الجزيرة حيث الأشجار والطيور، ومن دونها صخرة ناتئة من بين الرمال. استند إلى ذراعه اليمنى، واستوى في جلسة متحفزة، أخذ بيديه حفنتين من رمل الجزيرة، رفعها إلى عينيه وتأملها مليًا، ثم جعلها تنساب من بين أصابعه. أجال بصره في كل النواحي، ولم يزل جالسًا. انتصب واقفًا، وبدأ أولى خطواته على أرض الجزيرة.
حدثت مفارقة، في الساعة الأولى من حياته على الجزيرة، عندما وقف فجأة أمام قطيع من الغزلان. فرّت الغزلان ذعرًا منه، وفر هو في الاتجاه الآخر ذعرًا منها. لكنه أدرك الموقف بسرعة، فرجع لمطاردة الغزلان. طاردها في أنحاء الجزيرة ولكنها كانت أسرع منه، ولم يدركها التعب الذي أجبره على التوقف عن المطاردة، والجلوس تحت إحدى الأشجار.
رفع بصره لأعلى فشاهد الثمار المتدلية بألوانها الزاهية. انتصب واقفًا ومد يده وتناول بعضًا منها، رفعها إلى فيه وقضم إحداها، لاك القضمة بهدوء، بينما أخذ يتأمل الثمرة المقضومة، ثم أخذ يلوك القضمة بسرعة، متبعًا إياها بقضمات أخرى شرهة حتى أتى على الثمرة وثمار أخرى.
أيام «وحيد» الأولى على الجزيرة تجوال متواصل، لا ينتهي حتى يبدأ من جديد. أخذت آثاره تملأ الجزيرة خصوصًا على السواحل، وتكاثرت بقايا الثمار التي كان يتناولها. كان يبيت بجانب الصخرة الناتئة من بين رمال ساحل الجزيرة، بالقرب من المكان الذي صحا فيه لأول مرة، فيما بدا أنه اعتبر هذا المكان نقطة مرجعية له بعد جولاته المتكررة.
بعد أيام عثر على كهف الجزيرة، واتخذه مكانا لسكناه. كانت الكاميرات تتابعه حتى في كهفه. لم يكن كثير حركة في الكهف، إذ لم يكن يمارس فيه سوى النوم.
طالت لحيته، وظهر بصورة مهيبة، تختلف عن صورته التي نقل عليها إلى الجزيرة. كان بين فترة وأخرى يجلس على الصخرة ويقوم بقضم أظافره عندما تطول على نحو ملحوظ، ثم ينزل إلى مياه الساحل الضحلة ويقوم بنتف الشعر من بعض مواضع جسمه في سلوك يتطور مرة بعد مرة.
عثر في يوم من الأيام على رفات لأحد غزلان الجزيرة النافقة. وكان المشهد مؤثرًا عندما أخذ الجلد الذي ما زال مكسوًا بالشعر، واندفع به إلى الساحل وعلى الفور قام بترطيبه وغسله بماء البحر، وثم لف وسطه به متخذه إزارًا، ولأول مرة تستر عورته عن الناس الذين كانوا يشاهدونه على الدوام عاريًا على الشاشات. ظهر السرور والارتياح على وجهه، وبدت هامته أكثر شموخًا من بعد هذا الحدث.
مثل هذه السلوكيات راقت للكثيرين من الناس في كل مكان من العالم، ولم يكن «البروفيسور فريد» ومعظم أفراد فريقه العلمي مسرورين بمثل هذه المشاهد، بل كانوا يعزونها إلى المصادفة ويبرّرونها بمبررات مختلفة.
بنيته الجسدية تقوى يومًا بعد يوم، بعد أن كان رجلاً ضعيف البنية مترهلاً حين نقل إلى الجزيرة. أخذت بطنه في الضمور ولكن ساعديه وساقيه تزدادان صلابة وافتتالاً مع الأيام. أصبحت حركته أكثر رشاقة، وازدادت قدرته على الجري ومطاردة الغزلان حتى أمسك يومًا بأحد الغزلان، ولكنه سرعان ما أطلقه بعد أن قلبه وتفقّده وتعرّف عن كثب على أحد هؤلاء الذين يشاركونه الحياة على جزيرته، وظهرت ابتسامته الأولى جميلة ومؤثرة على شاشات التلفزيون، وهو يرقب الغزال الطليق الهارب.
سلوكه المعيشي يتطور، على نحو ما هو متوقع، وكما جادت به مخيلات الأدباء والمفكرون عبر التراث الإنساني الطويل. تشابهت حياته في واقعها وتطوراتها مع «حي بن يقظان» عند «ابن الطفيل»، و«روبنسون كروزو» لدى «جوناثان سويفت»، و«موغلي» في كتاب الأدغال الذي سطّره «رديارد كبلنغ» وغيرهم ممن تخيّلوا سلوك الإنسان في وحدته وحواره وتفاعله مع البيئة البكر من حوله، صنع الأدوات. استخدم الآنية. نام مبكرًا. واستيقظ مبكرًا. مرض وتعافى. تعب واستراح.. مارس الصيد. جلب السمك من المياه. تذوق اللحم. اكتشف النار وطهى الطعام. حصد الحب وطحن وخبز...
ممارساته تزداد إتقاناً يومًا بعد يوم، وثقته بنفسه تظهر جلية من سلوكه المتطور باطراد. وبدا أن حياته قد أخذت مظهرًا مستقرًا. وكانت النقاشات العلمية حول هذا الوضع المُراقب مستمرة على مدار الساعة. لقاءات متصلة لمجموعات من الأنثروبيولوجيين، والأطباء، وعلماء النفس، والاجتماع، والمتدينين، والملاحدة، والوجوديين، والمثاليين، والواقعيين.. إلا أن النقاشات قد بدأت في الفتور، بعد أن أخذت حياته بالمسير على وتيرة متكرّرة.
قرّر «البروفيسور فريد» إدخال عنصر جديد، لاختبار فرضية حول أهم جانب في حياة الإنسان من وجهة نظره ووجهة نظر تلامذته في كل مكان. وتقرر اختبار هذه الفرضية من خلال إنزال امرأة إلى الجزيرة في إحدى الليالي، ليستيقظ وحيد ويجدها ملقاة على إحدى السواحل.
تطوعت «بارعة» للقيام بهذه التجربة، ورغم أنها كانت ممثلة سينمائية فاتنة وعلى قدر من التهتّك الأخلاقي، إلا أنها اشترطت عقد زواج معلن من طرف واحد، ممثلًا بها، يربطها بوحيد. ورغم تحفظ «البروفيسور فريد»، إلا أنه قد تم عقد أغرب قران في التاريخ، على مرأى ومشهد من الناس على شاشات التلفزيون.
رست باخرة في المساء على مبعدة من الجزيرة، لا تدركها حواس «وحيد»، وبعد غروب الشمس وخلوده إلى نومه العميق، انطلق من الباخرة، في منتصف الليل تقريبًا، قارب في هدوء، وعلى ظهره مجموعة من الرجال جلست «بارعة» بينهم، وقد حشدت على وجهها أكبر قدر من مساحيق التجميل، فيم ارتدت ملابس قرمزية. أنزولها إلى شاطئ الجزيرة، وقفلوا عائدين إلى الباخرة.
استيقظ قبيل شروق الشمس. أوقد نارًا. خبز. أكل. شرب من آنية فخارية. بدأ جولته اليومية. لمح من بعيد، وعلى غير العادة، شيئًا ملقى على الساحل، فقد اضطجعت «بارعة» متظاهرة بالنوم. ظهر اهتمام «وحيد» بالجسم الملقى هناك، وظهر أنه شعر بأن ذلك الشيء ليس حيوانًا من حيوانات الجزيرة، ولا طيرًا من الطيور البحرية، فهو مختلف وأكبر حجمًا من الطيور.
أحسّت «بارعة» بخطوات «وحيد» تقترب، فمالت إلى جهته تنظر من بين أهدابها المسبلة ومن تحت شعرها الذي غطى وجهها، في محاولة للتعرف على تعبيرات وجهه وهو يراها لأول مرة. اقترب «وحيد» حتى بقيت خطوات بينه وبين «بارعة»، ثم توقف. أخذت «بارعة» تتظاهر بالاستيقاظ من نوم طويل. تمطّت وتثاءبت، ثم هزّت رأسها بحركة فاتنة ومتقنة أظهرت بها جبينها من بين شعرها المتناثر.
ابتسمت «بارعة» بإغراء صارخ وإيحاءات غريزية مثيرة، ولكنه كان جامدًا في كل شيء، يداه إلى جانبيه، عيناه مستقرتان في محاجره، جسده متخشبًا كما لو كان تمثالاً ينتصب على شاطئ الجزيرة ولأن الكاميرات الصغيرة التي تنتشر في كل بقعه من الجزيرة كانت على درجة متقدمة من الدقة، فقد ظهر للناس جميعًا أن وجه وحيد قد أخذ في شحوب متزايد لحظة بعد لحظة رغم جمود حركته.
لم يكن خوفًا ذلك الذي اعترى وحيدًا، فقد سهل على المراقبين والمشاهدين نفي سلوك الخوف أو الهلع، لأن وحيد لم يكن يرجف، ولم يكن مضطربًا، وإنما كان في حالة مفاجئة من الجمود والتخشّب.
نهضت بارعة، وبدت قامتها رائعة. مدت يدها نحو «وحيد» في ود ونداء عاطفي بلغة الإشارة. ولو لم تكن شاشة القناة التلفزيونية مدموغة بعنوان جانبي «تَجْرِبَةُ وَحِيِدٍ» لظن الناس أنهم يشاهدون فيلمًا عاطفيًا كتلك التي كانت «بارعة» تقوم بتمثيلها في العادة.
حاولت «بارعة» بكل ما أوتيت من قوة جسدية أن تزيح الصخرة التي حالت بينها وبين أن تدلف إلى كهف وحيد، حيث تمترس «وحيد» داخل الكهف، في رفض واضح لوجودها في كهفه أو في جزيرته كلها. كان ينظر إليها من ذلك الجزء البسيط الذي لا تغطيه الصخرة. لم يكن يظهر من وجهه سوى عينيه وجبهته، ولم تكن نظراته نظرات الوجل أو الحذر، وإنما كان يرمقها كمن يريد القول «اذهبي من هنا». وبعد محاولاتها اليائسة تلقت «بارعة» تعليمات الفريق البحثي من خلال سماعات دقيقة كانت مثبتتة في أذنيها.
- «كلّميه..!».
- «إنه لا يعرف لغة من لغات البشر»، ردت بارعة على الفريق العلمي الذي كان يسمعها من خلال أجهزة دقيقة مماثلة. كما سمع «وحيد» صوتها لأول مرة.
- «إذًا عليكِ أن تقومي بإجراء آخر...».
- «إجراء مثل ماذا؟».
- «استخدمي لغة الجسد، افعلي أي شيء قد يجذبه».
- «حسنًا سأرقص..!».
أخذت «بارعة» في أداء وصلة من الرقص في الساحة الرملية الصغيرة عند فوهة الكهف، وهي تلحظ وحيدًا الذي كان يراقبها بدوره من خلف الصخرة. لكنها توقفت عن الرقص، بعد أن أحست بخيبة كبيرة، فقد تراجع «وحيد» إلى قعر الكهف، باشمئزاز وعدم رغبة في متابعة الرقص المثير.
ظل «وحيد» يتزود بالطعام المدّخر داخل الكهف، ولا يخرج من كهفه إلا في اللحظات التي تبتعد فيها «بارعة» عن المكان. فقرّر «البروفيسور فريد» سحب «بارعة» بعد بضعة أيام. ورغم معارضة الفريق العلمي إلا أن «البروفيسور فريد» قد فاجأهم بأنه هو شخصيًا من سينزل على الجزيرة في المرة القادمة.
انطلق القارب مجددًا في مساء آخر، حاملًا هذه المرة «البروفيسور فريد». ظهر للناس أن وجه «البروفيسور فريد» كان أكثر تجهّما واضطرابًا من العادة، فقد عرفه الناس رجلاً قبيح الملامح غليظ الطباع، يغطي جسده شعر كثيف، فيما عدا وجهه الذي كان يحلقه بطريقة غير مرتّبة. عُرف عنه التحدث على الدوام بكبرياء واضح ويغلب عليه الفظاظة في الحديث، برغم مكانته العلمية في علم النفس. وعلاوة على ذلك كان ذا بنية جسدية قوية وظهر محدودبًا وجثة ضخمة جدًا.
عندما رسا الزورق على شاطئ الجزيرة، قام «البروفيسور فريد» بالتجرّد تمامًا من ملابسه. توجه البروفيسور إلى كهف «وحيد»، الذي كان يغط في سباته الليلي المعتاد. عندما مشى «البروفيسور فريد» على رمال الجزيرة تحت ضوء القمر الشاحب، متوجهًا إلى الكهف، كان خُيّل لكثير من الناس أنهم يشاهدون غولاً بشعًا ضخمًا كتلك التي تظهر في أفلام الرعب.
وقف «البروفيسور فريد» عند فوهة الكهف، ونظر من الكوة إلى الداخل، وحاول تبيّن ما إذا كان «وحيد» قد أحس بوجوده، ولكن الأخير كان مستغرقًا في السبات. جلس البروفيسور في الساحة الرملية بانتظار إفاقة وحيد، ولكن النوم قد غلبه هو بدوره، ولم يفق إلا والرجل الذي كان موضع تجربته لسنين، واقف على رأسه.
أفاق «البروفيسور فريد» بتثاقل، وانتصب واقفًا بمواجهة «وحيد» الذي لم يرف له جفن. لم يكن «وحيد» كحالته عندما واجه «بارعة» في المرة السابقة، بل كان واثقًا بنفسه، يقوم بأداء إشارات غير معروفة، كان يشير بيديه إلى البروفيسور ثم يشير على الأرض، ثم يدير له ظهره، ثم يعود ويشير إليه بنفس الطريقة، ثم يدير ظهره مرة أخرى. فيما كان البروفيسور ينظر إليه بحقد وبخيبة أمل في وقت واحد.
تكلم «البروفيسور فريد»، وسمعه «وحيد»، كما سمعه الناس في كل مكان:
- «حسنًا يا «وحيد» لقد بدأ الناس في كل مكان برفض جميع فرضياتي حول الإنسان، فرضية تلو الأخرى، والسبب هو تصرفاتك المتناقضة مع ما افترضناه حول الطبيعة البشرية...».
- «أغغغ غغغغغ ».
- «أنت لا تعرف الكلام، سأعلمك الكلام وأعلمك أشياء أخرى، لو لم أكن مشرفًا على عملية محو ذاكرتك، لأيقنت بأنك تحمل بقايا من القيم والتعاليم الموروثة...».
- «أغغغ غغغغغ، هههو هههو».
- «هه، هل تريد القول إن سلوكياتك التي لاحظناها فطرة في الإنسان، وليست موروث بائس مكتسب؟ أبدًا(!) إنها الغريزة وحدها التي تحكم السلوك الإنساني، لقد كان سلوكك الشاذ عن الغريزة مصادفةً محضة.أكره المصادفة التي تعرقل العلم والملاحظة الدقيقة.. كم يلزمني من السنين حتى أُعيد التجربة على مجرم آخر.. ؟!».
- «(؟)».
- «تتعفف من «بارعة» أيها النجس، أنت لا تذكر بالطبع أن جريمتك التي اقترفتها قبل التجربة كانت اعتداء على فتاة تسبب لها بعاهة نفسية مستديمة، استجابةً لغريزتك!! آه لقد فاتنا أنك قد تقدّمت في العمر، ولم تعد صالحًا لإجراء تجريبي كهذا ..».
- «(؟)».
-«في المرة القادمة سوف نقوم بالتجربة على فتى يافع، أو على طفل رضيع يرثك على هذه الجزيرة، ولكن قبل ذلك ينبغي رميك في سلة مهلات المختبر...!».
وانقض البروفيسور فريد بجنون ووحشية وحقد بدائي على عنق «وحيد» الذي كان ضئيل الجسم بالمقارنة مع «البروفيسور فريد».
تحرك زورق على جناح السرعة لإنقاذ «البروفيسور فريد» من قبضتي «وحيد» الذي أطبق بقوة على عنق البروفيسور. خارت قوى البروفيسور تدريجيًا حتى استسلم بعد محاولات لاستعادة سيطرته على الوضع. ذُهل الناس من قوة «وحيد» البدنية التي استطاع من خلالها قلب الوضع واعتلاء البروفيسور. ولكن القارب قد توقف بعد أن وصلته أوامر بالعودة فقد قضى البروفيسور على يدي «وحيد».
هدأت أنفاس «وحيد» بعد هذه المعركة الضارية. وجلس قبالة الجثة الهامدة لساعات حتى المساء. ذُهل الناس مرة أخرى من القدرة الهائلة البدنية التي تمتع بها «وحيد»، فقد حمل جثة البروفيسور، قبيل غروب الشمس، ورفعها إلى الأعلى مادًّا ذراعيه في الهواء، ومشى على هذه الهيئة نحو الشاطئ، في طريق عكسي يتتبع به آثار البروفيسور من حيث أتى. تتبع وحيد آثار خطوات البروفيسور القادمة من الشاطئ حتى وصل إلى حد اتصال اليابسة بالماء.
لم يتوقف «وحيد»، عند حد المياه، بل واصل المشي في مياه الساحل الضحلة، وتدريجيًا بدأت تغمره مياه المحيط، حتى كادت تغطي وجهه، وجثة البروفيسور مرفوعة في الهواء. توقف «وحيد» وقذف بجثة البروفيسور باتجاه الباخرة التي لم يكن يراها. ومرة أخرى تعجّب الناس من قدرة «وحيد» البدنية، فقد كانت قذفته لجثة البروفيسور لمسافة يصعب تصديقها لو لم تكن على مشهد من الناس.
رجع «وحيد» إلى الشاطئ، وواصل السير نحو كهفه دون أن يلتفت أبدًا إلى الوراء. دلف إلى الكهف. وراقبته الكاميرات، ورغم أن الظلام حالك داخل الكهف، إلا أن الكاميرات الدقيقة في الداخل تستطيع رصد كل شيء. تقرفص «وحيد» بالداخل، وانهمرت للمرة الأولى دمعات سخية من محاجره. شعر الناس في كل مكان بحرارة الدموع التي بدأت بالتواتر والانهمار من مقلتيه!
لم ينم «وحيد» تلك الليلة، بل بقي مسهدًا حتى مطلع الفجر، وعيناه تجودان بمزيد من الدموع الحارة . خرج من كهفه مجهدًا في الصباح. لم تطلع شمس ذلك اليوم، بل اكفهرّ الجو بغيوم ملبدة. بدت الكآبة جلية على وجه «وحيد». انتصف النهار الكئيب. لكن الغيوم بدت بالانقشاع تحت أشعة الشمس.
تسلق «وحيد» أطول شجرة في قلب الجزيرة. كانت نخلة باسقة شاهقة في الهواء. كان «وحيد» يعتليها في كثير من الأحيان مكتشفًا أنحاء الجزيرة. لكنه في هذه المرة لم يجل ببصره في النواحي كالعادة، وإنما وقف منتصبًا، شاخصًا ببصره إلى السماء، كما لو كان تمثالاً منصوبًا على قمة النخلة. استمر «وحيد» منتصبًا في هذا الوضع المثير شاخصًا ببصره إلى السماء. حبس الناس أنفاسهم انتظارًا للفصل الجديد من هذا العرض المصوّر والمثير.
حل المساء، ومازال «وحيد» واقفًا بانتصاب شاخصًا ببصره على الأعلى. ولحظة غروب الشمس، أحنى «وحيد» رأسه ونظر فيما بين قدميه، حيث كانت هناك كاميرا أخرى صغيرة، لا يراها «وحيد»، ولكنها رصدت دمعات أخرى أخذت تذرفها مقلتيه، أغمض «وحيد» عينيه بقوة ليمنع الدموع، لكنها تخرج عنوة.
كان هذا هو المشهد الأخير الذي عرضته على طلبتي في قاعتنا التعلّمية الافتراضية هذا اليوم. لم تصلني رسالة واحدة من الطلبة، وإنما خرجوا واحدًا تلو الآخر من الفصل الافتراضي.
لم أكن أتوقع أن طلبتي بهذه الهمة وهذا التأثير السريع. كوّنوا فريقًا افتراضيًا، وتبنوا دعوة على مستوى العالم من خلال شبكات المعلومات لإنهاء «تَجْرِبَةُ وَحِيِدٍ». كانت مخاطبتهم المباشرة لجمعيات حقوق الإنسان في محلها تمامًا.
بدأت الدعاوى تتزايد على مستوى العالم لإنهاء التجربة فورًا، فقد اكتسبت دعوة طلبتي بُعدًا عالميًا. وازدادت الضغوط على «مركز أبحاث البوتقة»، وانتزعت جماعات ضغط، تشكلت خصيصًا لهذا الغرض، قرارًا عالميًا ملزمًا بإنهاء التجربة. وكان القرار الأول هو إيقاف النقل التلفزيوني لحياة «وحيد» على الجزيرة، واحترام خصوصية هذا المسكين، مذكرين بجريمة عرضه عاريًا في بدايات التجربة. وبالفعل قُطع البث وتوقفت الكاميرات عن البث لأول مرة.
وانطلقت من جميع قارات العالم بواخر تحمل المئات من القادمين لانتشال «وحيد» من وحدته وتأهيله للحياة الاجتماعية من جديد، أطباء نفسيين، ودعاة أديان، وقياديي جمعيات خيرية، وصحفيين، وإعلاميين، ومصورين... وفي غضون أيام كانت البواخر تقترب من الجزيرة من جميع النواحي. تجمعت البواخر على أحد الشواطئ، ونزل الركاب جميعًا، حيث لم يجدوا «وحيدًا» على الشاطئ كما توقعوا، لم يكن أحد يعلم بمكان «وحيد» من الجزيرة في هذه الساعة، إذ توقف البث التلفزيوني المباشر منذ أيام. وعليه فقد قدّروا أنه حول الكهف. تفرق القادمون في مجموعات متعددة في اتجاهات متعددة بحثًا عنه. وقبل ذلك تواصوا بعدم إفزاعه وعدم التعرض له بأي نوع من أنواع العنف، بل ملاطفته واحتواه بأية طريقة.
عادت فرق القادمين واحدة تلو الأخرى إلى حيث الشاطئ والبواخر الراسية. لم يجد أي فريق سوى آثار «وحيد» وبقايا طعامه وأدواته. بحثوا عنه ليومين وثلاثة وأسبوع وشهر. جاءت فرق متخصصة في البحث، وعدد كبير من قصاصي الأثر. قلّبوا كل صخور الجزيرة، اقتلعوا الأشجار، حرثوا الرمال، جلبوا أجهزة متخصصة في الكشف عن وجود المخلوقات الحية تحت الركام، عملت الغواصات لأسابيع بحثًا عن جثة غريق في مياه المحيط حول الجزيرة، وسّعوا دائرة البحث إلى أقصى قدر محتمل. لم يشاهد أحد شيئًا ذا علاقة بالبشر على الجزيرة سوى رفات البروفيسور فريد الذي قذفت به الأمواج إلى الشاطئ، فتحلل، ولم يتبق منه سوى هيكل عظمي بشع لرجل محدودب الظهر.


..
كل شيء في الحياة مُؤلم
كل أملاً زائف .. كل روحُ باكية
كل دمعة زائلة ..
كل أنثى .. رافضَة للعُيش
في بلادي يموتون وهم يعلمون ..
في بلادي يعلمُونه الخوف منذو الصغر ..
يصلون ، وبعد الفراغ من العُبادة يصفعونَ
طفلاً ، كبيراً ، صغيراً .. أمُاً .. أباً ، لايشعرون
إلهي .. كُن عوناً في أرضِ حتى المُطر ينفر مُنهم ..
فهم لايستحقون .. حقاً لايستحقون !


،،
مجُرد ثرثرة
شيءُ من خيالاً أو بكاء .. أو حقيقة عوجاء
الله وحده هو من يُعلم


شُكراً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق