الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

توافة الحياة . كاملة


آنطون تشيخوف . قاص وكاتب مسرحي روسي
أشُتهر برواياته وقصصه الصغيرة حتى عرف بلقبَ " رائد القصة الصغيرة "
كان طبيبا ويعشق الأدب حتى أن من إحدى مقولَاته المشهورة
* الطب زوجتي ، والأدب عشيقتي "
جُمعت كثير من مسرحيات تشيخوف وتدرس في كثير من الجامعات الروسية في عام 1900

آثر تشيخوف في حياة الكثيرين من الأدباء من بينهم باولو كويلهو ، أرنست همنغواي
ومن الأدباء العرب ، محمود تيمور الذي يطلق عليه رائد القصة العربية القصيرة .

للإبحار في حياة تشيخوف

هُنا
http://ar.wikipedia.org/wiki/


-

نشرٌت كثيرة من قصص تشيخوف القصيرة المسليَة والممتعة والرومانسية والحزينة أيضاً
أشهر ما كُتب له ويتداولها الناس هي قصصَ جٌُمعت بكتاب صغير
يدعى بـ توافة الحياة
.
بإجتهاد شخصي جلبت جميع القصصَ
إليكم .
نبدأ الأن مع الجزء الأول المسمّى بـ


توافه الحياة

توجه نيقولاي ايليتش بليايف، أحد أصحاب العقارات في بطرسبرج، ومن المترددين كثيرا
على سباق الخيل، وهو رجل شاب، في حوالي الثانية والثلاثين، ممتلئ الجسم، وردي البشرة،
توجه ذات مساء إلى السيدة أولجا ايفانوفنا ايرنينا التي كان يعاشرها، أو التي كانت له معها،
على حد تعبيره، قصة طويلة مملة. وبالفعل، فالصفحات الأولى من هذه القصة، تلك الصفحات
التي كانت شيقة ملهمة، قد فرغ من قراءتها منذ أمد بعيد، وامتدت الصفحات الآن ببطء، خلوة
من أي شيء جديد أو شيق.
وعندما لم يجد بطلنا أولجا ايفانوفنا في البيت، استلقى على أريكة في غرفة الجلوس، وشرع
ينتظرها.
وسمع صوتاً طفولياً يقول:
-مساء الخير يا نيقولاي ايليتش. ماما ستعود قريبا. لقد ذهبت مع سونيا إلى الخياطة.
في غرفة الجلوس ذاتها استلقى على الكنبة أليوشا ابن أولجا ايفانوفنا. وهو صبي في حوالي
الثامنة، رشيق، معتنى به، يرتدي سترة مخملية وجوربا طويلا من التريكو الأسود حسب
أحدث موضة. كان راقدا على وسادة من الحرير الأطلسي، ويبدو أنه كان يقلد لاعب
الاكروبات الذي رآه مؤخراً في السرك، فقد كان يرفع عاليا ساقيه بالتناوب. وعندما تتعب
ساقاه الرشيقتان ، يطلق العنان ليديه، أو يقفز بحدة ويجثم على اربع محاولا أن يقف على
يديه. وكان يفعل ذلك كله بوجه في غاية الجدية، وهو يزحر بمعاناة، وكأنما كان هو نفسه
غير راض اذ وهبه الله هذا الجسد القلق.
فقال بليايف:
-آه ، مرحبا يا صديقي. أهو أنت؟ لم ألاحظ وجودك. هل ماما بصحة طيبة؟
تشقلب اليوشا ، الذي أمسك بمشط قدمه اليسرى بيده اليمنى واتخذ وضعا غير عادي تماما، ثم
قفز واقفاً، وأطل على بليايف من خلف أباجورة كبيرة منتفخة.
وقال وهو يهز كتفيه:
-ماذا أقول لك؟ ماما في الواقع لا تشعر بنفسها في صحة طيبة أبدا. فهي امرأة، والمرأة، يا
نيقولاي ايليتش، لديها دائماً شيء ما مريض.
ولما لم يكن لدى بليايف ما يفعله، فقد راح يتأمل وجه أليوشا. فطوال فترة معرفته بأولجا
ايفانوفنا لم يعر الصبي أدنى اهتمام، ولم يلاحظ وجوده أبدا.. مجرد صبي يلوح لناظريه، أما
ما سبب وجوده هنا، وأي دور يؤديه، فهذا ما لم يشأ، لأمر ما، أن يفكر فيه.
وفي عتمة الغسق ذ ّ كره وجه أليوشا ذو الجبين الشاحب والعينين السوداوين غير البراقتين،
ذكره على غير توقع بأولجا في ملاطفة الصبي.
فقال له:
-تعال هنا يا صغير! دعني انظر إليك عن قرب.
وقفز الصبي من فوق الكنبة وركض إلى بليايف.
ووضع نيقولاي ايليتش يده على كتف الصبي النحيلة وقال:
-حسناً؟ ماذا؟ كيف الحال؟
-ماذا أقول لك؟ كان الحال في السابق أفضل بكثير.
-لماذا؟
-بسيطة جدا! في السابق كنت أنا وسونيا ندرس الموسيقى والقراءة فقط، أما الآن فعلينا أن
نحفظ أشعاراً بالفرنسية . أنت حلقت منذ وقت قريب.
-نعم، منذ وقت قريب.
-لقد لاحظت ذلك. أصبحت لحيتك أقصر . اسمح لي أن ألمسها.. ألا يؤلمك؟
-كلا، لا يؤلمني.
-وما السبب أنك عندما تشد شعرة واحدة تشعر بالألم وعندما تشد شعرا كثيرا لا تشعر أبدا
بأي ألم؟ ها – ها ! أتدري، خسارة أنك لا تطلق سوالفك. لو حلقت هنا قليلا، أما هنا، من
الجنبين، فتترك الشعر...
والتصق الصبي بليايف وراح يعبث بسلسلته. وقال :
-عندما أدخل المدرسة ستشتري لي ماما ساعة. وسأطلب منها أن تشترتي لي سلسلة مثل
هذه.. أوه، يا لها من مدلاة! بابا عنده مدلاة مثلها بالضبط، ولكن عندك هنا خطوط أما هو
فعنده حروف.. وفي الوسط عنده صورة ماما. أصبح لدى بابا الآن سلسلة أخرى، ليست
حلقات، بل شريطا...
-ومن أين عرفت؟ هل تقابل بابا؟
-أنا؟ مم .. لا! أنا .. لا
احمر أليوشا وراح يخدش المدلاة بظفره باهتمام وهو في ارتباك شديد من اكتشاف كذبه.
وحدق بليايف في وجهه مليا ثم سأله :
-هل تقابل بابا؟
ا ... لا!
-لا، أخبرني بصراحة.. فأنا أرى من وجهك أنك تكذب.. ما دمت قد ثرثرت فلا داعي إذن
للمراوغة. قل، هل تراه؟ خبرني كأصدقاء.
واستغرق أليوشا في التفكير . ثم سأل:
-ألن تقول لماما؟
-وهل هذا معقول!
-كلمة شرف؟
-كلمة شرف.
-أقسم!
-أوه يا لك من صعب! من تظنني؟
تلفت أليوشا حوله، واتسعت عيناه وقال هامساً:
-لكن استحلفك ألا تقول لماما.. وعموما لا تقل لأحد لأنه سر.. لو عرفت ماما، لا قدر الله،
فسيحل العقاب بي وبسونيا وببيلاجيا.. حسناً، اسمع، أنا وسونيا نقابل بابا كل ثلاثاء وجمعة،
عندما تصحبنا بيلاجيا للتنزه قبل الغداء، نذهب إلى محل حلوى "أبفل"، وهناك يكون بابا في
انتظارنا.. وهو دائماً يجلس في غرفة مستقلة، أتدري، تلك الغرفة التي بها طاولة مرمرية
وطفاية على شكل أوزة بدون ظهر...
-وماذا تفعلون هناك؟
-لاشيء! في البداية نتبادل التحية، ثم نجلس جميعاً إلى الطاولة ويضيفنا بابا قهوة وشطائر.
أتدري، سونيا تأكل شطائر باللحم، أما أنا فلا أطيق اللحم ! أنا أحب الشطائر بالكرنب
والبيض. ونأكل حتى نشبع، إلى درجة أننا فيما بعد، أثناء الغداء، نحاول أن نأكل أكثر حتى لا
تلاحظ ماما أننا سبق أن أكلنا.
-وعم تتحدثون هناك؟
-مع بابا؟ عن كل شيء. وهو يقبلنا ويعانقنا، ويروي لنا مختلف النكات والحوادث المضحكة.
أتدري، أنه يقول أننا عندما نكبر فسوف يأخذنا إليه .وسونيا لا تريد، أما أنا فموافق. بالطبع
سأشتاق إلى ماما، ولكني سأكتب لها رسائل ! شيء غريب.. سيكون بامكاني أن أزورها في
الأعياد، أليس كذلك؟ ويقول بابا أيضاً أنه سيشتري لي حصانا. شخص طيب جدا! أنا لا أدري
لماذا لا تدعوه ماما للعيش معنا وتحرم علينا مقابلته. إنه يحب ماما جدا. ودائماً يسألنا عن
صحتها وعما تفعله. وعندما كانت مريضة أمسك رأسه بيديه هكذا و .. أخذ يهرول.. دائما
يطلب منا أن نطيعها ونحترمها .اسمع، هل صحيح أننا تعساء؟
- إمم ، ولماذا
-بابا يقول هذا. يقول: أنتم أطفال تعساء. غريب أن تسمع منه هذا الكلام. يقول: أنتم تعساء،
وأنا تعيس، وماما تعيسة. صلوا لله من أجلكم ومن أجلها.
وتوقفت نظرة أليوشا على طائر محنط، واستغرق في التفكير. وقال بليايف بصوت كالخوار.
-هكذا.. إذن فأنتم تعقدون المؤتمرات في محلات الحلوى. وماما لا تعرف؟
-لا.. ومن أين تعرف؟ بيلاجيا لا يمكن أن تقول لها. وأول أمس ضيفنا بابا كمثري. حلوة
كالمربى! أا أكلت اثنتين.
-هم.. وهذا ..اسمع، وبابا لا يقول عني شيئاً ؟
-عنك؟ ماذا أقول لك؟
حدق أليوشا في وجه بليايف متفحصا ثم هز كتفيه.
-لا يقول شيئاً ذا بال.
-وتقريبا، ماذا يقول؟
-ألن تغضب؟
-هل هذا معقول! أهو يسبني؟
-لا يسبك، ولكن، أتدري ..غاضب عليك. يقول أن ماما تعيسة بسببك، وأنك... قضيت
عليها. انه كما تعلم غريب! انني أحاول أن أفهمه أنك طيب، ولا تصرخ في ماما أبداً، ولكنه
فقط يهز رأسه.
-اذن فهو يقول أنني قضيت عليها؟
-نعم، لا تغضب يا نيقولاي ايليتش!
-نهض بليايف، ووقف قليلا، ثم أخذ يذرع غرفة الجلوس. ودمدم وهو يهز كتفيه ويبتسم
بسخرية.
-هذ ١ غريب و .. مضحك! هو المذنب في كل شيء ومع ذلك فأنا الذي قضيت عليها، هه؟
انظروا، يا له من حمل وديع. اذن فقد قال لك أنني قضيت على أمك؟
-نعم، ولكن .. لقد قلت أنك لن تغضب!
-أنا لست غاضباً و ... وليس هذا شأنك! لا، هذا.. ان هذا مضحك! أنا الذي وقعت في
مطب، ثم اذا بي أنا المذنب !
ودق جرس الباب. فوثب الصبي من مكانه وانطلق خارجا. وبعد دقيقة دخلت غرفة الجلوس
سيدة ومعها طفلة صغيرة.. كانت تلك أولجا ايفانوفنا، والدة أليوشا. وتبعها أليوشا وهو يقفز
ويغني بصوت عال ويهز ذراعيه .وأومأ بليايف برأسه محيياً، ثم واصل سيره في الغرفة.
ودمدم وهو يزفر:
-طبعاً، من غيري الآن يمكن توجيه الاتهام إليه؟ انه محق! انه زوج مهان!
فسألت أولجا ايفانوفنا:
-عم تتحدث؟
-عم؟.. اذن فلتسمعي المواعظ التي يلقيها زوجك الموقر! لقد ظهر أنني وغد وشرير، قضيت
عليك وعلى الأولاد. كلكم تعساء، وأنا السعيد الوحيد! سعيد إلى درجة فظيعة، فظيعة!
-أنا لا أفهم يا نيقولاي عم! تتحدث!
-فلتسمعي اذن هذا السنيور الصغير!
احمر أليوشا، ثم امتقع فجأة، وتقلص وجهه كله من الفزع. وهمس بصوت عال:
-نيقولاي ايليتش! هس!
ونظرت أولجا ايفانوفنا بدهشة إلى أليوشا، ثم إلى بليايف، ثم إلى أليوشا مرة أخرى.
واستطرد بليايف يقول:
-هيا اسأليه! خادمتك بيلاجيا، هذه الحمقاء، تتردد على محلات الحلوى وترتب اللقاءات هناك
مع الوالد المحترم. ولكن ليست هذه القضية، القضية هي أن الوالد المحترم ضحية، أما أنا
فشرير، سافل حطمت حياتكم...
فتأوه أليوشا:
-نيقولاي ايليش! لقد أعطيتني كلمة شرف!
فأشاح بليايف بيده:
-ايه، دعني! الأمر الآن أهم من أية كلمات شرف. ما يثير سخطي هو الرياء، الكذب!
فقالت أولجا ايفانوفنا وقد ترقرت الدموع في عينيها:
-أنا لا أفهم! – وخاطبت ابنها: - اسمع يا لولكا، هل تقابل أباك؟
بيد أن أليوشا لم يكن يصغي إليها بل كان يحدق في بليايف وقال الأم:
-مستحيل ! سأذهب إلى بيلاجيا وأستجوبها.
وخرجت أولجا ايفانوفنا.
فقال أليوشا وبدنه كله يرتجف:
-اسمع، ألم تعطني كلمة شرف!
فأشاح بليايف نحوه بيده ومضى يذرع الغرفة. كان مستغرقاً في غضبه ولم يعد يلاحظ وجود
الصبي كما في السابق. لقد كان وهو الرجل الجاد الكبير- في شغل عن الصبيان. أما أليوشا
فقد انزوى في الركن، وأخذ يروي لسونيا بارتياع كيف خدع. كان يرتجف ويتلجلج، ويبكي،..
كانت تلك أول مرة في حياته يصطدم بالكذب وجها لوجه، وبهذه الفظاظة. لم يكن يعرف من
قبل أنه يوجد في هذه الدنيا، بالاضافة إلى الكمثري الحلوة والشطائر والساعات الثمينة، كثير
من الأشياء الأخرى التي لا أسماء لها في لغة الأطفال.

الجزُء الثاني

الخطیب
ذات صباح رائع جرى دفن المساعد الاعتباري كيريل ايفانوفتش فافيلونوف، الذي توفي من
جراء مرضين جد منتشرين في بلادنا: الزوجة الشريرة، وادمان الخمر. وعندما تحرك موكب
الجنازة من الكنيسة إلى المقابر، استقل أحد زملاء المتوفى، المدعو بوبلافسكي، عربة وانطلق
إلى صديقه جريجوري بتروفتش زابويكين، وهو رجل شاب ولكنه مشهور إلى حد كبير.
وزابويكين، كما يعرف كثير من القراء، رجل ذو موهبة نادرة في ارتجال خطب الزفاف
والمناسبات اليوبيلية والتأبين. وبوسعه أن يخطب في أي وقت: اثر الاستيقاظ مباشرة، وعلى
الريق، وفي حالة السكر الفظيع، وأثناء الحمى. وينساب كلامه ناعماً، سلساً كما يسيل الماء
من ميزاب، وغزيرا. وفي قاموسه الخطابي من كلمات الرثاء أكثر مما في أية حانة من
صراصير. وخطبه دائما فصيحة، طويلة حتى انهم أحيانا، وخاصة في أعراس التجار،
يضطرون للجوء إلى الشرطة لإيقافه عن الكلام.
وقال بوبلافسكي عندما وجده في البيت:
-انني أقصدك يا أخي! البس بسرعة وهيا بنا. لقد توفي أحد زملائنا، والآن نشيعه إلى العالم
الآخر، ومطلوب يا أخي أن تقول في وداعه بعض الهراء.. الأمل كله فيك. لو كان المتوفى
من صغار الموظفين لما أزعجناك، ولكنه سكرتير.. يعني من أعمدة الادارة. ومن غير اللائق
أن ندفن هذا الرأس الكبير بدون خطبة.
فقال زابوكين متثائباً :
-آه، السكرتير! أهو ذلك السكير؟
-نعم، السكير. ستكون هناك شطائر طازجة لك ...وستمنح أجرة العربة. هيا يا عزيزي! فلتلق
على قبره خطبة عصماء أفصح من خطب شيشرون، وستتلقى كل الشكر!
وافق زابوكين عن طيب خاطر. نكش شعره، واضفى على وجهه سيماء الكآبة وخرج مع
بوبلافسكي.
وقال وهما يجلسان في العربة:
-أعرف سكرتيركم هذا .قَلّ أن تجد أفاقاً وشيطاناً مثله، عليه الرحمة.
-لا يصح يا جريشا أن تشتم الموتى.
ولكنه مع ذلك محتال. أنت محق، طبعا
لحق الصديقان بركب الجنازة وانضموا إليه. وكانوا يحملون المتوفى ويسيرون به ببطء فتمكن
الصديقان قبل بلوغ المقابر من أن يعرجا ثلاث مرات على الحانات ويشربا في ذكرى
المرحوم.
وأقيمت صلاة الميت في المقابر. وجريا على العادة بكت زوجته وأختها وحماته كثيراً.
وعندما أنزل التابوت إلى المقبرة صاحت زوجته "ادفنوني معه!" لكنها لم تنزل إلى المقبرة
وراء زوجها ربما لأنها تذكرت المعاش. وانتظر زابوكين حتى عم الهدوء، ثم تقدم إلى الأمام،
وطاف على الحاضرين بنظراته، وقال:
-هل نصدق سمعنا وأبصارنا؟ أليس حلماً رهيباً هذا التابوت وهذه الأوجه الباكية، وهذا الأنين
والنحيب؟ يا للحسرة، هذا ليس حلما، وأبصارنا لا تخدعنا! ان ذلك الذي رأيناه منذ وقت قريب
مكتمل الصحة ، في أوج شبابه وبهائه ونضارته، ذلك الذي رأيناه منذ وقت قريب يضع،
كالنحلة، عسله في الخلية العامة لبناء الدولة، ذلك الذي.. هو بعينه أصبح الآن تراباً، أصبح
سرابا ماديا. لقد أطبقت عليه قبضة الموت الذي لا يرحم عندما كان، رغم عمره المتأخر،
مفعماً بالقوة المتأججة والأحلام المشرقة. فيالها من خسارة لا تعوض !من ذا الذي يعوضنا
عنه؟ لدينا الكثير من الموظفين الممتازين، ولكن بروكوفي أوسيبوفتش كان الوحيد بينهم. لقد
كان مخلصا من صميم قلبه لواجبه الشريف، ولم يرحم نفسه، لم ينم الليل، وكان مثلا للتفاني
والنزاهة.. كم كان يحتقر أولئك الذي يحاولون رشوته على حساب المصلحة العامة، أولئك
الذين حاولوا بخيرات الحياة المغرية دفعه إلى خيانه واجبه! نعم، لقد رأينا بأعيننا كيف كان
بروكوفي أوسيبوفتش يوزع راتبه الصغير على رفاقه المعوزين، وها قد سمعتم الآن عويل
الأرامل واليتامى الذين كانوا يعيشون على حسناته. لقد كان مخلصا لواجبه الوظيفي ولأعمال
الخير فلم يذق ملذات الدنيا، بل حرم نفسه حتى من سعادة الحياة العائلية. فأنتم تعرفون أنه
ظل عازبا حتى آخر أيام عمره! ومن ذا الذي يعوضنا عنه رفيقا؟ كأني أرى الآن وجهه
الحليق البشوش الذي يهل علينا بابتسامة طيبة، وكأني أسمع الآن صوته الناعم الودود الرقيق.
طيب الله ثراك يا بروكوفي أوسيبوفتش! فلتنعم بالسكينة أيها الكادح الشريف النبيل!
ومضى زابوكين يخطب بينما أخذ المستمعون يتوشوشون. أعجب الجميع بالخطبة، التي
استدرت بعض الدموع ، ولكن الكثير فيها بدا لهم غريبا. فأولا: لم يكن مفهوما لماذا دعا
الخطيب المرحوم باسم بروكوفي أوسيبوفتش بينما كان اسمه كيريل ايفانوفتش. وثانيا: كان
الجميع يعرفون أن المرحوم ظل طوال حياته يصارع زوجته الشرعية، وبالتالي فلا يمكن أن
يكون عازباً .وثالثا: فقد كانت لديه لحية غزيرة حمراء، ولم يحلق ذقنه قط، ولذا فلم يكن
مفهوما لماذا وصف الخطيب وجهه بالحليق . أبدى السامعون استغرابهم وتبادلوا النظرات،
وهزوا أكتافهم .
ومضى الخطيب يقول بحماس وهو ينظر في القبر:
-يا بروكوفي أوسيبوفتش! لم يكن وجهك جميلا، بل حتى كان قبيحا، متجهما صارما، ولكننا
كنا نعرف جميعا أن هناك، تحت هذه القشرة الظاهرة، ينبض قلب شريف ودود!
وسرعان ما بدأ السامعون يلاحظون شيئا غريبا على الخطيب نفسه. فقد ثبت بصره على نقطة
واحدة، ثم أخذ يتململ بقلق، وراح يهز كتفيه. وفجأة صمت، وفغر فاه بدهشة، والتفت إلى
بوبلافسكي.
وقال وهو ينظر برعب:
-اسمع، انه حي!
-من الحي !؟
-بروكوفي أوسيبوفتش! ها هو يقف هناك بجوار التمثال!
-انه لم يمت أصلا! كيريل ايفانيتش هو الذي مات!
-ألم تقل لي أن سكرتيركم مات؟
-كيريل ايفانيتش كان سكرتيرا. يا لك من مضحك، لقد خلطت الأمور! صحيح أن بروكوفي
أوسيبوفتش كان سكرتيرا ولكنه نقل منذ عامين إلى القسم الثاني رئيس قلم.
-آه، الشيطان وحده يفهمكم!
-وما لك توقفت، أكمل، لا تحرجنا!
والتفت زابوكين نحو القبر وواصل حديثه المنقطع بنفس البلاغة السابقة. وبالفعل كان
بروكوفي اوسيبوفتش، وهو موظف عجوز، بوجه حليق، يقف بجوار التمثال. وكان يتطلعه
إلى الخطيب وقد قطب حاجبيه بغضب.
وضحك الموظفون أثناء عودتهم من المقابر مع زابوكين:
-ما الذي دهاك؟ تدفن شخصا حيا!
ودمدم بروكوفي اوسيبوقتش:
-عيب عليك أيها الشاب! ربما كانت خطبتك مناسبة للمرحوم، ولكنها محض سخرية بالنسبة
لشخص حي! ما هذا الذي قلته؟ متفان، نزيه، لا يقبض رشاوي! هذا الكلام عن شخص حي
ليس إلا سخرية! كما أن أحدا لم يطلب منك يا سيدي أن تفيض في وصف وجهي. غير
جميل، قبيح، فليكن، ولكن ما الداعي لعرض وجهي فرجة أمام الجميع؟ هذا مهين!.

الجزءُ الثالث

وفاة موظف

ذات مساء رائع كان ايفان ديمتريفيتش تشرفياكوف، الموظف الذي لا يقل روعة، جالسا في
الصف الثاني من مقاعد الصالة، يتطلع في المنظار إلى "أجراس كورنيفيل" . وراح يتطلع
وهو يشعر بنفسه في قمة المتعة. وفجأة.. وكثيراً ما تقابلنا "وفجأة" هذه في القصص .والكّتاب
على حق، فما أحفل الحياة بالمفاجآت! وفجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه..
وحول عينيه عن المنظار وانحنى و .. أتش !!! عطس كما ترون. والعطس ليس محظوراً
على أحد في أي مكان. إذ يعطس الفلاحون، ورجال الشرطة، بل وحتى أحياناً المستشارون
السريون. الجميع يعطس. ولم يشعر تشرفياكوف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص
مهذب نظر حوله ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بعطسه. وعلى الفور أحس بالحرج .فقد رأى
العجوز الجالس أمامه في الصف الأول يمسح صلعته ورقبته بقفازه بعناية ويدمدم بشيء ما.
وعرف تشرفياكوف في شخص العجوز الجنرال بريزجالوف الذي يعمل في مصلحة السكك
الحديدية.
وقال تشرفياكوف لنفسه: "لقد بللته. إنه ليس رئيس، بل غريب، ومع ذلك فشيء محرج. ينبغي
أن أعتذر."
وتنحنح تشرفياكوف ومال بجسده إلى الأمام وهمس في أذن الجنرال:
-عفواً يا صاحب السعادة، لقد بللتكم .. لم أقصد..
-لا شيء ، لا شيء.
-استحلفكم بالله العفو. إنني.. لم أكن أريد!
-أوه، اسكت من فضلك !دعني أصغي!
وأحرج تشرفياكوف فابتسم ببلاهة، وراح ينظر إلى المسرح. كان ينظر ولكنه لم يعد يحس
بالمتعة. لقد بدأ القلق يعذبه. وأثناء الاستراحة اقترب من بريزجالوف وتمشى قليلاً بجواره،
وبعد أن تغلب على وجله دمدم:
-لقد بللتكم يا صاحب السعادة.. اعذروني.. انني لم اكن أقصد أن..
فقال الجنرال:
-اوه كفاك .!أنا قد نسيت وأنت ما زلت تتحدث عن نفس الأمر!
وحرك شفته السفلى بنفاذ صبر.
وقال تشرفياكوف لنفسه وهو يتطلع إلى الجنرال بشك: "يقول نسيت بينما الخبث يطل من
عينيه. ولا يريد أن يتحدث. ينبغي أن أوضح له أنني لم أكن أرغب على الإطلاق ..وإن هذا
قانون الطبيعة، وإلا ظن أنني أردت أن أبصق عليه. فإذا لم يظن الآن فسيظن فيما بعد"..!
وعندما عاد تشرفياكوف إلى المنزل روى لزوجته ما بدر عنه من سوء تصرف. وخيل إليه
أن زوجته نظرت إلى الأمر باستخفاف، فقد جزعت فقط، ولكنها اطمأنت عندما علمت أن
بريزجالوف "غريب."
وقالت:
-ومع ذلك اذهب إليه واعتذر. وإلا ظن أنك لا تعرف كيف تتصرف في المجتمعات!
-تلك هي المسألة! لقد اعتذرت له، ولكنه ..كان غريباً.. لم يقل كلمة مفهومة واحدة. ثم أنه لم
يكن هناك متسع للحديث.
وفي اليوم التالي ارتدى تشرفياكوف حلة جديدة، وقص شعره ، وذهب إلى بريزجالوف
لتوضيح الأمر.. وعندما دخل غرفة استقبال الجنرال رأى هناك كثيراً من الزوار ورأى بينهم
الجنرال نفسه الذي بدأ يستقبل الزوار. وبعد أن سأل عدة أشخاص رفع عينيه إلى
تشرفياكوف. فراح الموظف يشرح له :
-بالأمس في "اركاديا" لو تذكرون يا صاحب السعادة عطست و.. بللتكم عن غير قصد..
اعذر..
-يا للتفاهات... الله يعلم ما هذا! – وتوجه الجنرال إلى الزائر التالي – ماذا تريدون؟
وفكر تشرفياكوف ووجهه يشحب: "لا يريد أن يتحدث. إذن فهو غاضب.. كلا، لا يمكن أن
أدع الأمر هكذا.. سوف أشرح له"..
وبعد أن أنهى الجنرال حديثه مع آخر زائر واتجه إلى الغرفة الداخلية، خطا تشرفياكوف خلفه
ودمدم:
-يا صاحب السعادة! إذا كنت اتجاسر على إزعاج سعادتكم فإنما من واقع الاحساس بالندم!.
لم أكن أقصد، كما تعلمون سعادتكم!
فقال الجنرال وهو يختفي خلف الباب:
-انك تسخر يا سيدي الكريم!
وفكر تشرفياكوف: "أيه سخرية يمكن أن تكون؟ ليس هناك أية سخرية على الإطلاق! جنرال
ومع ذلك لا يستطيع أن يفهم !إذا كان الأمر كذلك فلن أعتذر بعد لهذا المتغطرس. ليذهب إلى
الشيطان! سأكتب له رسالة، ولكن لن آتي إليه. أقسم لن آتي."!
هكذا فكر تشرفياكوف وهو عائد إلى المنزل. ولكنه لم يكتب للجنرال رسالة. فقد فكر وفكر
ولم يستطع أن يدبج الرسالة .واضطر في اليوم التالي إلى الذهاب بنفسه لشرح الأمر .
ودمدم عندما رفع إليه الجنرال عينين متسائلتين:
-جئت بالأمس فأزعجتكم يا صاحب السعادة، لا لكي أسخر منكم كما تفضلتم سعادتكم فقلتم.
بل كنت أعتذر لأني عطست فبللتكم.. ولكنه لم يدر بخاطري أبداً أن أسخر. وهل أجسر على
السخرية؟ فلو رحنا نسخر، فلن يكون هناك احترام للشخصيات إذن..
وفجأة زأر الجنرال وقد أربد وارتعد:
-اخرج من هنا!!
فسأل تشرفياكوف هامساً وهو يذوب رعباً:
-ماذا ؟
فردد الجنرال ودق بقدمه:
-اخرج من هنا!!
وتمزق شيء ما في بطن تشرفياكوف. وتراجع إلى الباب وهو لا يرى ولا يسمع شيئاً، وخرج
إلى الشارع وهو يجرجر ساقيه.. وعندما وصل آلياً إلى المنزل استلقى على الكنبة دون أن
يخلع حلته.. ومات.

الجزء الأخير

في البيت

-جاء رسول من آل جريجوريف يطلب كتاباً، ولكني قلت أنكم لستم في المنزل. وحمل ساعي
البريد جرائد ورسالتين .وبالمناسبة يا يفجيني بتروفيتش أرجو أن تولوا اهتمامكم إلى
سيريوجا. فقد لاحظت اليوم، وأول أمس، أنه يدخن. وعندما بدأت أوبخه سد أذنيه كالعادة
وأخذ يغني بصوت عال لكيلا يسمع ما أقول.
كان يفجيني بتروفتش بيكوفسكي وكيل نيابة الناحية، قد عاد لتوه من جلسة المحكمة وفرغ من
نزع قفازه في غرفة مكتبه، فنظر إلى المربية التي كانت تبلغه هذا التقرير وضحك.
وقال وهو يهز كتفيه:
-سيريوجا يدخن... إنني أتخيل منظر هذا الصغير والسيجارة في فمه! ولكن كم عمره؟
-في السابعة. قد يبدو لكم هذا غير جدي، ولكن التدخين في سنه عادة سيئة ومضرة،
والعادات السيئة ينبغي القضاء عليها في بدايتها.
-أنت على حق تماما. ومن أين يحصل على التبغ؟
-من درج مكتبكم.
-حقاً؟ في هذه الحالة أرسليه إلي
وبعد انصراف المربية جلس بيكوفسكي في المقعد أمام مكتبه، وأغمض عينيه، وراح يفكر.
ولسبب ما رسم في خياله صورة لابنه سيريوجا وفي فمه سيجارة ضخمة طويلة، وتلفه سحب
دخان السجائر، فجعلته هذه الصورة الكاريكاتيرية يبتسم. وفي الوقت نفسه آثار وجه المربية
الجاد المهموم في نفسه ذكريات الماضي البعيد، المنسي تقريبا، عندما كان التدخين في
المدرسة أو في غرفة الأطفال يثير في نفوس المدرسين والآباء رعباً غريباً، غير مفهوم
تقريبا. كان ذلك رعبا بالفعل. وكانوا يضربون الأولاد بقسوة، ويفصلونهم من المدرسة،
ويفسدون عليهم مستقبلهم، رغم أن أحداً من المدرسين أو الآباء لم يكن يعلم بالضبط ما هو
الضرر من التدخين وما هي الجريمة في ذلك. وحتى أذكى الأشخاص لم يترددوا في مكافحة
الرذيلة التي لم يكونوا يفهمونها. وتذكر يفجيني بتروفيتش ناظر مدرسته، ذلك العجوز المثقف
جداً والطيب القلب والذي كان يتملكه الرعب إلى درجة الشحوب عندما يضبط تلميذاً يدخن،
فيجمع على الفور مجلس المربين ويحكم على المذنب بالفصل. يبدو أن تلك هي طبيعة قانون
الحياة المشتركة: فكلما ازداد الشر غموضاً أصبحت مقاومته أكثر ضراوة وفظاظة.
وتذكر وكيل النيابة اثنين أو ثلاثة من المفصولين، وتابع مجرى حياتهم بعد ذلك، فلم يستطع
أن يمنع نفسه من التفكير بأن العقاب كثيراً ما يعود بشر أكثر من الجريمة نفسها. فالجسم
الحي يملك القدرة على التكيف السريع والتعود والتأقلم مع أي وسط، وإلا لكان على الإنسان
أن يشعر في كل لحظة بمدى انعدام الحكمة في أساس نشاطه الحكيم، وبضآلة الحقيقة
المستوعبة والثقة، حتى في تلك الأنشطة المسئولة وذات الآثار الخطيرة كالنشاط التربوي،
والقانوني والأدبي...
أخذت مثل هذه الأفكار الخفيفة الغائمة، والتي لا تراود إلا الذهن المتعب ساعة الراحة، تدور
في رأس يفجيني بتروفتش. كانت تظهر من حيث لا يعرف ولسبب لا يدريه ، وتبقى في
رأسه قليلاً، ويبدو وكأنها تزحف فوق المخ دون أن تغوص عميقاً فيه. وبالنسبة للأشخاص
الذين يتوجب عليهم أن يفكروا بطريقة رسمية، وفي اتجاه واحد لساعات طويلة وربما لأيام،
تمثل مثل هذه الأفكار المنزلية الحرة نوعاً من الراحة والاستجمام اللذيذ.
كانت الساعة حوالي التاسعة مساء. وفوق غرفة المكتب، في الطابق الثاني، وراء السقف، كان
شخص ما يسير من ركن لركن، وأعلى من ذلك، في الطابق الثالث تردد عزف ثنائي على
البيانو. وأضفت خطوات ذلك الشخص الذي كان ، حسبما بدا من مشيته العصبية، يعذبه
التفكير، أو يعاني من ألم في أسنانه، والانغام الرتيبة، أضفت على هدوء المساء جوا ناعساً
يبعث على الاستسلام للتفكير الكسول. وعبر غرفتين تناهى حديث المربية مع سيريوجا وفي
غرفة الأطفال.
وأخذ الصبي يغني:
- بابا وصل هيّه بابا وصل
وصرخت المربية بصوت رفيع كطائر مذعور:
إنني أخاطبك!!
وقال يفجيني بتروفتش لنفسه: "ولكن ماذا أقول له؟"
وقبل أن يهتدي إلى شيء دخل غرفة المكتب ابنه سيريوجا، الصبي ذو السبعة أعوام. كان
شخصاً لا يمكن الحكم على جنسه سوى من ملبسه... قليل الحجم، شاحب الوجه، هشاً... كان
ذابل الجسم مثل نبات دفيئة، وبدا كل شيء فيه رقيقاً وناعماً جداً :حركاته، وشعره المجعد
الخصلات، ونظرته، وسترته المخملية.
وقال بصوت ناعم وهو يعتلي ركبتي أبيه ويقبله في عنقه بسرعة:
-مرحبا يا بابا! هل دعوتني؟
فأجاب وكيل النيابة وهو ينحيه عنه:
-اسمح لي، اسمح لي يا سيرجي يفجينيتش** قبل القبلات ينبغي علينا أن نتحدث، ونتحدث
بجدية... انني غاضب منك ولم أعد أحبك.. نعم، فلتعلم يا أخي أنني لا أحبك، وانك لست
ابني.. نعم.
تطلع سيريوجا إلى أبيه باهتمام، ثم حول نظره إلى الطاولة وهز كتفيه.
ثم سأل بدهشة وعيناه تطرفان:
-وماذا فعلت لك؟ أنا لم أدخل مكتبك اليوم ولا مرة، ولم ألمس شيئاً.
-اشتكت لي نتاليا سيميونوفنا الآن من أنك تدخن.. هل هذا صحيح؟ هل تدخن؟
-نعم، دخنت مرة ..هذا صحيح!
فقال وكيل النيابة عابساً ليخفي ابتسامته:
-انظر، ها أنت فوق ذلك تكذب. لقد رأتك نتاليا سيميونوفنا تدخن مرتين. إذن فأنت قد
ضبطت متلبساً بثلاثة أعمال سيئة: فأنت تدخن، وتأخذ تبغاً ليس لك من المكتب، وتكذب. ثلاثة
ذنوب!
فقال سيريوجا متذكراً بينما ابتسمت عيناه:
-آه ، نعم! هذا صحيح، صحيح! أنا دخنت مرتين: اليوم ومن قبل.
-هل رأيت؟ إذن مرتين وليس مرة واحدة.. أنا غير راض عنك أبداً، أبداً! كنت صبياً طيباً
من قبل، أما الآن فأرى أنك فسدت واصبحت سيئاً.
وسوى يفجيني بتروفيتش ياقة سيريوجا وفكر:
"ماذا أقول له بعد؟"
ثم استطرد يخاطبه:
-نعم، هذا أمر سيء. لم أكن أتوقع ذلك منك. فأولاً، لا يحق لك أن تأخذ تبغاً ليس ملكك. من
حق كل انسان أن يستخدم فقط ما يملكه، أما اذا استولى على ما ليس له فهو.. فهو انسان
سيء! (وفكر يفجيني بتروفتش: "ليس هذا هو المطلوب قوله ("!فمثلا نتاليا سيميونوفنا عندها
صندوق ملابس. إنه صندوقها، ولا يحق لنا، أقصد أنا وأنت، أن نمسه، لأنه ليس صندوقنا.
أليس كذلك؟ وأنت لديك لعب وصور.. وأنا لا أستولي عليها، أليس كذلك؟ ربما كنت أريد أن
أستولي عليها.. ولكنها ليست لي، بل لك!
فقال سيريوجا وقد رفع حاجبيه:
-خذها اذا كنت تريد! لا تخجل يا بابا من فضلك، خذها !هذا الكلب الأصفر على مكتبك هو
كلبي، ولكني لا أقول شيئاً.. فليبق على مكتبك!
فقال بيكوفسكي:
-أنت لا تفهمني. هذا الكلب أنت أهديتنيه. فهو الآن ملكي، وبوسعي أن أفعل به ما أريد.
ولكني لم أعطك التبغ ! التبغ ملكي أنا! (وفكر وكيل النيابة: "ليس هذا ما ينبغي أن أوضحه!
ليس هذا أبدا!") ولو أردت أنا أن أدخن تبغاً ليس لي، فعّلي قبل كل شيء أن أستأذن...
أخذ بيكوفسكي يشرح لابنه ما معنى الملكية، وهو يشبك العبارة بالعبارة في كسل ويتصنع
لهجة الأطفال. وكان سيريوجا يصغي إليه باهتمام وهو يحدق في صدره (كان يحب التحدث
مع أبيه في أوقات المساء)، ثم اتكأ على طرف المكتب وزر عينيه القصيرتي النظر محدقا في
الأوراق والمحبرة. وطافت نظراته على المكتب ثم توقفت على زجاجة صمغ عربي.
وسأل فجأة وهو يقرب الزجاجة من عينيه:
-بابا ، مُما يصنع الصمغ ؟
فأخذ بيكوفسكي الزجاجة منه ووضعها في مكانها، وأكمل:
-وثانيا أنت تدخن... وهذا شيء سيء جداً ! فإذا كنت أنا أدخن فهذا لا يعني أبداً أن التدخين
مسموح به. أنا أدخن وأعرف أن ذلك ليس من الحكمة، وأوبخ نفسي ولا أحبها بسبب ذلك...
(وفكر بيكوفسكي: "يا لي من مرب مكار!"). – التبغ ضار جدا بالصحة، ومن يدخن يموت
مبكرا. والتدخين ضار بصفة خاصة بالصغار أمثالك .فصدرك ضعيف، وأنت لم تصبح قويا
بعد، والتدخين يصيب الضعفاء بالسل وغيره من الأمراض .عمك اجناتي مثلا مات بالسل. لو
لم يكن يدخن فربما عاش حتى اليوم.
تطلع سيريوجا مفكراً إلى المصباح، وتحسس الاباجورة باصبعه وتنهد.
وقال:
-كان عمي أجناتي يعزف جيدا على المكان! كمانه الآن عند آل جريجوريف!
واتكأ سيريوجا ثانية على طرف المكتب واستغرق في التفكير. وعلى وجهه الشاحب استقر
تعبير وكأنما كان يصغي أو يتابع سير أفكاره الخاصة. وبدا في عينيه الواسعتين اللتين لا
تطرفان حزن أو شيء أشبه بالذعر. ربما كان يفكر الآن في الموت الذي اختطف منذ زمن
قريب أمه وعمه اجناتي .فالموت يحمل إلى العالم الآخر الأمهات والأعمام، بينما يبقى أولادهم
وكماناتهم على الأرض. ويعيش الموتى في السماء، في مكان ما قرب النجوم، وينظرون من
هناك إلى الأرض .ترى هل يتحملون ألم الفراق؟
وفكر يفجيني بتروفتش: "ماذا أقول له؟ إنه لا يصغي إلي.. يبدو أنه لا يعير أهمية لا لذنوبه
ولا لحججي. كيف أقنعه؟"
ونهض وكيل النيابة وأخذ يذرع غرفة المكتب. وراح يفكر: "في الماضي، على أيامي، كانت
هذه المسائل تحل بمنتهى البساطة: كانوا يجلدون الصبي المتلبس بالتدخين. وكان الجبناء
وضعفاء القلوب يقلعون فعلا عن التدخين. أما الأكثر شجاعة وذكاء فكانوا، بعد العلقة،
يخبئون التبغ في رقبة الحذاء العالي ويدخنون في الحظيرة. وعندما يضبطون الصبي في
الحظيرة ويجلدونه ثانية، كان يذهب إلى شاطئ النهر ليدخن... وهكذا دواليك حتى يكبر .
كانت أمي تغدق علي النقود والحلوى حتى لا أدخن. أما الآن فتعتبر هذه الوسائل تافهة ولا
أخلاقية. فالمربي الحديث، وقد تسلح بالمنطق، يحاول أن يجعل الطفل يتقبل المبادئ الخيرة لا
بدافع الخوف أو الرغبة في التميز أو طمعاً في مكافأة، بل عن وعي."
وبينما كان يتمشى ويفكر، اعتلى سيريوجا الكرسي الموضوع بجوار المكتب وبدأ يرسم.
وحتى لا يلوث الأوراق الرسمية ويعبث بالمحبرة وضعت على المكتبة رزمة من الورق
المقصوص خصصياً له وقلم أزرق.
وقال وهو يرسم بيتاً ويلعب حاجبيه:
-جرحت الطباخة اليوم اصبعها عندما كانت تخرط الكرنب. وصرخت عاليا لدرجة أننا خفنا
جميعا وركضنا إلى المطبخ. أما غبية! نصحتها نتاليا سيميونوفنا بأن تبلل اصبعها بالماء
البارد، لكنها أخذت تمصه... كيف يمكن أن تضع في فمها هذا الاصبع القذر؟ أليس هذا عيبا
يا بابا ؟
ثم روى بعد ذلك أنه أثناء الغداء أتى إلى الفناء عازف جوال ومعه فتاة كانت تغني وترقص
على أنغام الموسيقى.
وفكر وكيل النيابة: "ان لديه تيار أفكاره الخاصة! لديه في رأسه عالمه الصغير الخاص،
وبطريقته الخاصة يعرف ما هو المهم وغير المهم. ولا يكفي للاستحواذ على انتباهه وادراكه
أن تتصنع لهجته، وانما ينبغي كذلك أن تعرف كيف تفكر بطريقته. كان من الممكن أن يفهمني
تماما لو انني بالفعل كنت آسفاً على التبغ، لو انني غضبت وبكيت.. ولهذا فالأمهات لا غنى
عنهن في التربية لانهن قادرات على الاحساس بما يحس به الأطفال، وعلى البكاء والضحك
معهم... ولن تصل إلى شيء بالمنطق والوعظ. حسناً، فماذا أقول له؟ ماذا؟"
وبدا ليفجيني بتروفتش غريبا ومضحكا انه، وهو القانوني المحنك، والذي قضى نصف عمره
في التمرس بشتى أنواع المنع والانذار والعقوبة، أصبح مرتبكا تماما ولا يعرف ماذا يقول
للصبي.
وأخيرا قال:
-اسمع ، اعطني كلمة شرف بأنك لن تدخن بعد الآن.
فقال سيريوجا مغنيا، وهو يضغط بشدة على القلم وينحني فوق الرسم:
قال :كلمة شرف! كلمة شرف !
وسأل بيكوفسكي نفسه: "وهل هو يعرف ما معنى كلمة شرف؟ كلا، انني مرب سيئ. لو أن
أحدا من المربين أو من زملائي القضاة أطل الآن في رأسي لاعتبرني خرقة، بل وربما
اتهمني بالافراط في التحذلق... ولكن المشكلة ان كل هذه القضايا الخبيثة تحل في المدرسة أو
المحكمة على نحو أبسط بكثير مما في البيت. فأنت هنا تتعامل مع مخلوقات تحبها بجنون،
والحب يفرض متطلباته ويعقد المسألة. لو لم يكن هذا الصبي ابني، لو كان تلميذي أو أحد
المتهمين لما ترددت هكذا، ولما تشتتت أفكاري"..!
جلس يفجيني بتروفتش إلى المكتب وتناول أحد رسومات سيريوجا. كان الرسم يصور منزلا
بسقف معوج ودخانا يتصاعد من المدخنة حتى طرف الورقة على شكل تعرجات حادة
كالبرق. وبجوار المنزل وقف جندي يحمل بندقية بحربة على شكل رقم أربعة ، وبنقطتين بدلا
من العينين.
وقال وكيل النيابة:
-الانسان لا يمكن أن يكون أعلى من المنزل .انظر .. السقف لديك يصل إلى كتف الجندي.
وتسلق سيريوجا ركبتيه وظل يتحرك طويلا ليتخذ وضعا مريحا.
وقال بعد أن تامل رسمه:
-لا يا بابا ! لو رسمت الجندي صغيرا فلن تظهر عيناه. فهل كان عليه أن يجادله؟ لقد اقتنع
وكيل النيابة من واقع ملاحظاته اليومية لابنه أن لدى الأطفال، مثلما لدى الأقوام المتوحشة،
نظرتهم الفنية الخاصة ومتطلباتهم المتميزة التي تستعصي على فهم الكبار. وربما لو راقب
أحد الكبار سيريوجا بانتباه لبدا له صبيا شاذا. فقد كان يعتبر من الممكن والمعقول أن يرسم
الناس أعلى من المنازل، ويعبر بالقلم، إلى جانب الأشياء، عن أحاسيسه الخاصة. فقد كان
يصور مثلا أنغام الاوركسترا على شكل بقع دخانية دارية، ويصور الصغير على شكل خيط
لولبي.. كان الصوت في مفهومه يرتبط ارتباطا وثيقا بالشكل واللون، فعندما يلون الحروف
كان دائما يصبغ حرف (اللام) باللون الأصفر، وحرف (الميم) باللون الأحمر، وحرف
(الألف) باللون الأسود، وهلم جرا.
وألقى سيريوجا بالرسم وتململ في جلسته ثانية متخذا وضعا مريحا، ثم راح يعبث بلحية أبيه.
في البداية مسدها بعناية ، ثم فرق شعرها وأخذ يمشطه ليجعله مثل السوالف.
ودمدم:
-الآن أصبحت تشبه ايفان ستيبانوفتش. أما الآن فتشبه.. بوابنا. بابا، لماذا يقف البوابون
بجوار الأبواب؟ لكي يمنعوا اللصوص من الدخول؟
أحس وكيل النيابة بأنفاس سيريوجا على وجهه، وكان خده يلمس شعره بين الحين والحين،
فأحس في قلبه بدفء ونعومة، كأنما لم تكن يداه فحسب بل وروحه كلها تستلقي على مخمل
سترة سيريوجا. وحدق في عيني الصبي الواسعتين السوداوين، فخيل إليه أنه قد أطلت عليه
من الحدقتين الواسعتين أمه وزوجته وكل من أحبهم في يوم ما.
وقال في نفسه: "فلتحاول إذن أن تجلده.. هيا ابتكر عقابا لو استطعت ! كلا، أين نحن من
المربين. قبلا كان الناس بسطاء، يفكرون أقل، ولذلك كانوا يحسمون القضايا بجرأة.. أما نحن
فنفكر أكثر من اللازم، والمنطق قد اغرقنا تماما.. كلما كان الانسان أكثر تطورا وتفكيرا
وغوصا في دقائق الأمور ، أصبح أقل جرأة وأكثر وسوسة، واشد وجلا في التصدي للمسألة.
وبالفعل، لو أمعنا التفكير، فأية شجاعة وثقة في النفس ينبغي أن تكون لدى المرء لكي يقدم
على تعليم الآخرين، والحكم عليهم، وتأليف الكتب السميكة."..
ودقت الساعة العاشرة.
فقال وكيل النيابة:
-حسناً يا بني، حان وقت النوم. ودعني وانصرف.
فعبس سيريوجا وقال:
-لا يا بابا. سأبقى قليلا. احك لي شيئا . احك لي حكاية !
-طيب، لكن بعد الحكاية ستذهب إلى الفراش فورا.
كان من عادة يفجيني بتروفتش في الامسيات الخالية أن يحكي الحكايات لسيريوجا. ومثل
معظم الاشخاص العمليين لم يكن يحفظ قصيدة شعر واحدة، ولا يذكر حكاية واحدة، ولهذا كان
يلجأ إلى الارتجال في كل مرة. وفي العادة كان يبدأ بالعبارة التقليدية: "كان يا ما كان، في
سالف العصر والأوان"، ثم يحشد كما من الهراء البرئ ولا يعرف أبدا عندما يبدأ كيف سيكون
وسط الحكاية ونهايتها. كان يعتمد على الحظ والبديهة في رسم الصور والأشخاص
والظروف. أما الموضوع والموعظة فينبثقان تلقائيا، دون علاقة بارادة الراوي. وكان
سيريوجا يهوى كثيرا هذه القصص المرتجلة، ولاحظ وكيل النيابة أنه كلما جاء الموضوع
بسيطا دون تعقيد، كان تأثيره على الصبي أقوى.
وبدأ يحكي وقد رفع نظره إلى السقف:
-اسمع ... كان يا ما كان، في سالف العصر والاوان، كان هناك ملك عجوز عجوز، بلحية
شيباء طويلة و ... وبشوارب هائلة. وكان يعيش في قصر زجاجي يلمع ويتلألأ في الشمس
مثل قطعة كبيرة من الجليد النقي. أما القصر يا أخي فكان وسط حديقة ضخمة، حيث كانت
تنمو ماذا؟.. أشجار البرتقال.. والكمثري.. والكرز.. وتزهر أزهار الأقحوان، والورود،
والسوسن، وتنشد الطيور الزاهية الألوان... نعم.. وكانت تتدلى من الاشجار أجراس زجاجية
صغيرة، وعندما تهب الريح، ترن بصوت رقيق، يخلب الألباب .فالزجاج يصدر صوتا أرق
وأنعم من المعدن.. حسناً، وماذا كان هناك أيضاً؟ كانت النافورات تتدفق في الحديقة... أتذكر
النافورة التي رأيتها في دار خالتك سونيا الريفية؟ مثلها بالضبط كانت النوافير في حديقة
الملك، ولكنها أكبر بكثير، وكانت تيارات الماء المتدفقة منها تصل إلى قمة أعلى شجرة
حور...
وفكر يفجيني بتروفتش قليلا ثم استطرد:
-وكان لدى الملك العجوز ابن وحيد، هو وريث العرش والمملكة . كان صبيا صغيرا هكذا
مثلك. وكان ولدا طيبا. لم يكن يتدلل ابدا، وكان ينام مبكرا، ولا يلمس شيئا على المكتب...
وعموما كان ولدا شاطرا. لم يكن يعيبه الا شي واحد: لقد كان يدخن...
أصغى سيريوجا بتركيز وهو يحدق في عيني أبيه بعينين لا تطرفان . ومضى وكيل النيابة
يحكي وهو يفكر: "وماذا بعد؟" وبعد أن لت وعجن كثيرا، كما يقال، انهى الحكاية هكذا:
-ومن التدخين مرض ولي العهد بالسل ومات وهو في العشرين من عمره .وأصبح الملك
العجوز، المريض المهدم، بلا معين. ولم يعد هناك من يرعى شئون المملكة ويحمي القصر.
فجاء الأعداء وقتلوا الملك العجوز، وهدموا القصر، ولم يعد فيه الان كرز أو طيور أو
أجراس... هكذا يا أخي...
بدت هذه النهاية ليفجيني بتروفتش نفسه مضحكة وساذجة، إلا أن الحكاية بمجملها تركت في
نفس سيريوجا أثرا قويا. وعاد الحزن وشيء أشبه بالرعب يلف عينيه. وظل حوالي دقيقة
يحدق في النافذة المظلمة وهو مستغرق في التفكير، ثم انتفض وقال بصوت متهدج:
-لن أدخن مرة ثانية...
وبعد أن ودع أباه وانصرف لينام، أخذ الأب يذرع الغرفة بهدوء من ركن لركن وهو يبتسم.
وفكر في نفسه: "قد يقال أن ما أّثر عليه هو الجمال والشكل الفني. فليكن، ولكن هذا ليس
بشيء مطمئن. انه مع ذلك ليس وسيلة حقيقة... لماذا ينبغي تقديم الموعظة والحقيقة ليس
بصورتهما المجردة، النيئة، بل بالخلطات، وبقشرة سكرية مذهبة كحبات الدواء؟ ليس هذا
طبيعيا.. انه خداع ، تزوير.. تحايل"..
وتذكر القضاة المحلفين، الذين لا بد أن تسمعهم "خطبة عصماء" ، وعامة الناس الذين لا
يستوعبون التاريخ الا من خلال الملاحم والسير والروايات التاريخية، وتذكر نفسه، هو الذي
استقى خبرة الحياة لا من المواعظ والقوانين، بل من الحكايات والروايات والاشعار...
"ينبغي أن يكون الدواء حلوا، والحقيقة جميلة.. وهذه النزوة قد أباحها الانسان لنفسه منذ عهد
آدم.. وعموما.. ربما كان كل ذلك طبيعيا وهكذا ينبغي للأمور أن تكون... وهل تخلو الطبيعة
من الخداع المفيد والأوهام."...
وشرع يعمل، بينما ظلت الأفكار المنزلية الكسولة تهوم في رأسه طويلا. ولم تعد أنغام العزف
تسمع ولكن ساكن الطابق الثاني ظل يخطو من ركن لركن.

نٌشرت عام 1887 م
أنطون تشيخوف


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق