الثلاثاء، 28 أغسطس 2012

جان جاك روسو


جان جاك روسو

ولد جان جاك روسو عام 28 - يونيو - 1718 في مدينة جنيف من أصل عائلة فرنسية . وتوفي عام 2 - يوليو - 1778 .

يعتبر جان جاك روسو من أهم فلاسفة العقل في أواخر القرن السابع عشر .

جُزء من حياته :

بعد وقت قصير من رحيله عن جنيف، وهو في الخامسة عشرة من عمره، التقى روسو بالسيدة لويز دي وارنز، وكانت أرملة موسرة. وتحت تأثيرها، انضم روسو إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. ومع أن روسو كان أصغر من السيدة دي وارنز باثني عشر أو ثلاثة عشر عامًا، إلا أنه استقر معها بالقرب من مدينة شامبيري، في دوقية سافوي. وقد وصف سعادته بعلاقتهما في سيرته الذاتية الشهيرة اعترافات التي كتبت في عام 1765 أو 1766م - 1770م، ونُشرت عامي 1782م و 1788م، ولكن العلاقة لم تدم، فقد هجرها روسو أخيرًا عام 1740م
وفي عام 1741م أو 1742م، كان روسو في باريس يجري وراء الشهرة والثروة، وقد سعى إلى احتراف الموسيقى. وكان أمله يكمن في وضع نظام جديد للعلامات والرموز الموسيقية قد كان ابتكره. وقدم المشروع إلى أكاديمية العلوم، ولكنه أثار قدرًا ضئيلاً من الاهتمام. في باريس، اتَّصل روسو بـالفلاسفة وهي جماعة من مشاهير كتاب وفلاسفة العصر. وحصل على التشجيع المادي من مشاهير الرأسماليين. ومن خلال رعايتهم، خدم روسو أمينًا للسفير الفرنسي في البندقية خلال عامي 1743، 1744م.

كانت نقطة التحول في حياة روسو عام 1749م، حين قرأ عن مسابقة، تكفـَّلت برعايتها أكاديمية ديجون، التي عرضت جائزة مالية لأحسن مقال عن موضوع " هل إحياء النشاط في العلوم والفنون سيؤدي إلى الإسهام في تطهير السلوك الأخلاقي ؟ ". وما أن قرأ روسو عن المسابقة حتى أدرك المجرى الذي ستتّجه إليه حياته. وهو معارضة النظام الاجتماعي القائم الذي كان يشعر بالاستياء منه كثيرا، ما بين طبقة غنية تهتم بالبذخ والمظاهر والتفاخر، وطبقة كبيرة من الفقراء المعدمين. وقرر أن يمضي فيما بقي من حياته في بيان الاتجاهات الجديدة للتنمية الاجتماعية. وقدم روسو مقاله إلى الأكاديمية تحت عنوان: بحث علمي في العلوم والفنون عام 1750 /1751 م، حمل فيه على العلوم والفنون لإفسادها الإنسانية. ففاز بالجائزة، كما نال الشهرة التي ظل ينشُدها منذ أمد بعيد ت ولكنه كان يقفضل الانعزال والتفكير.
في عام 1755م نشر روسو في إطار مسابقة أخرى تحت رعاية نفس الأكادمية مقالته المعروفة بالخطاب الثاني تحت عنوان "خطاب حول مصدر وأسس اللاعدالة بين الناس" والذي أتم به شهرته وأحدث على غرار الخطاب الأول جدلاً واسعاً، وانصب عليه عداء الحاكم وطبقة اللأثرياء.
بدعوةٍ من السيدة لويز دي إبيني، "فر" روسو باريس واستقر بمونمورانسي من سنة 1756م إلى سنة 1762م.


إنجازاته وبعض أفكاره :
تتسم آخر أعمال روسو بالإحساس بالذنب وبلغة العواطف. وهي تعكس محاولته للتغلب على إحساس عميق بالنقص، ولاكتشاف هويته في عالم كان يبدو رافضًا له. حاول روسو في ثلاث محاورات صدرت أيضًا تحت عنوان قاضي جان جاك روسو كُتبت في المدة بين عامي 1772 - 1776م، ونُشرت عام 1782م، حاول الرد على اتهامات نقاده، ومن يعتقد أنهم كانوا يضطهدونه. أما عملُه الأخير، الذي اتسم بالجمال والهدوء، فكان بعنوان أحلام اليقظة للمتجول الوحيد (كُتبت بين عامي 1776 و1778م، ونُشرت عام 1782م). كذلك، كتب روسو شعرًا ومسرحيات نظمًا ونثرًا. كما أن له أعمالاً موسيقية من بينها مقالات كثيرة في الموسيقى والمسرحية الغنائية (أوبرا) ذات شأن تسمى عرّاف القرية، ومعجم الموسيقى (1767م)، ومجموعة من الأغنيات الشعبية بعنوان العزاء لتعاسات حياتي (1781م). وفضلاً عن ذلك، كتب روسو في علم النبات، وهو علم ظل لسنوات كثيرة تتوق نفسه إليه.
كتب روسو كتابا رئيسيا في التربية اسمه "إميل أوعن التربية" على هيئة قصة طفل. وتبدأ القصة بنشأة الطفل إميل وتنتهي بزواجه وهو في سن 25 سنة. يربى النشئ على طبيعته بدون إجبارة على حفط العلوم والثقافات، بذلك يتعلم النشئ من طبيعة ميوله وبالتجربة الشخصية.
واهم ما يصبوا إليه روسو أن ينشأ في الطفل الشعور الاجتماعي. وكما يؤكد روسو على استقلالية النشئ، فيجب أن يكون هذا مقترنا بتوجيه خفي بحيث تتفق ميول النشئ مع ما يريده المعلم. ففي كتاب "إميل أو عن التربية" يقول روسو:" اتبعوا مع النشئ الطريقة العكسية، وهي أن يشعر النشئ بأنه هو صاحب الاختيار. فلا توجد استجابة وتكريس إلا بالشعور بأن المرء حرا فيما يتعلمه. هذا هو التكريس الحقيقي".
و يرى روسو أن النشئ الذي ينشأ على تلك الطريقة الحرة هو الأصلح لمجتمعه.
انتشرت طريقة روسو في تربية النشئ سريعا في مختلف الدول الأوروبية، وهي تعتبر حتى يومنا هذا الطريقة الأساسية لطرق التعليم الحديثة.
مهد روسو لقيام الرومانسية، وهي حركة سيطرت على الفنون في الفترة من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلاديين؛ فلقد ضرب روسو، سواء في كتاباته أو في حياته الشخصية، المثل على روح الرومانسية، من خلال تغليبه المشاعر والعواطف على العقل والتفكير، والنزوة والعفوية على الانضباط الذاتي. وأدخل روسو في الرواية الفرنسية الحب الحقيقي المضطرم بالوجدان، كما سعى إلى استخدام الصور الوصفية للطبيعة على نطاق واسع، وابتكر أسلوبًا نثريا غنائيًا بليغًا. وكان من شأن اعترافاته أن قدمت نمطًا من السير الذاتية التي تحوي أسرارًا شخصية.


بعض الأقاويل التي تُنسب له :
  • الحرية صفة أساسية للإنسان، وحق غير قابل للتفويت، فإذا تخلى الإنسان عن حريته فقد تخلى عن إنسانيته وعن حقوقه كإنسان.
  • الحرية تعني تمتع الفرد بجميع حقوقه السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية في اطار قانوني.
  • الإنسان ولد طيبا بطبعه ولكن المجتمع هو الذي يفسده.


مٌقتطفات من كتاب الاعترافات " أروع أعماله " :


من الكتاب الأول: (الأعوام 1712-1719)
«سأبدأ بمشروع ما قام به أحد من قبل، ولن يقدر غيري فيما بعد على تكراره. ارغب برسم صورتي بكل صدق الطبيعة للقارئ. انا فقط اعرف مشاعري وأسرار قلبي، وأدرك كم اختلف عن كل من أراه حولي من الناس. أغامر بالقول انه ليس هناك مثيل لي على قيد الحياة، وهذا لا يعني انني افضل بالضرورة، بل انني من نوع آخر فحسب. سيكتشف القارئ بعد قراءة هذه الصفحات هل أخطأت الطبيعة في خلقي، ام صنعت الأفضل.»
حين يدق ناقوس الساعة، سأقف أمام خالقي المعظم وهذا الكتاب في يدي، قائلا بشجاعة: "هذا ما فكرت به وفعلته. لم انس ذكر الطالح من أفعالي، ولم أضف من الخير ما لم يكن موجودا بالفعل. أؤكد الان ان الإضافات النادرة الموجودة إنما كانت لتعويض تفاصيل لم أجدها في ذاكرتي، وبانني ما ذكرت ابدا ما عرفت بعدم صدقه. عرضت نفسي كما كنت: حقيراً استحق الاحتقار او عظيماً سامياً في فكري، حسب ما كنت عليه في تلك المرحلة. كشفت نفسي كما رأتها عيناك يا خالقي العظيم. اجمع حولي الان كل اخوتي، ودعهم يسمعون اعترافي ويندبون لفشلي ومساوئي. ثم دع أي واحد منهم يكشف بذات الصدق أسرار قلبه ثم يقول لو كان يجرؤ: "كنت افضل من هذا الرجل."
شعرت قبل ان أفكر، وهذا هو نصيب الإنسان الذي عانيته اكثر من غيري. لا اعرف ما فعلته حتى بلغت سن السادسة، ولا أتذكر كيف او متى تعلمت القراءة. ولكني أتذكر أول قراءاتي وتأثيرها علي. تركت أمي بعد وفاتها بعض القصص الرومانسية، وكنا أنا وأبى نقرا منها كل يوم بعد العشاء. في البداية، كان الهدف هو مساعدتي على تعلم القراءة بمساعدة كتب مسلية، ولكننا بعد ذلك أعجبنا بالقصص وصرنا نقضي جل الليل في هذا العمل. أحيانا، كان والدي يخجل حين يسمع صوت تغريد الطيور في الفجر الباكر ويقول: "لنذهب للنوم، فأنا اكثر طفولة منك."
بهذه الطريقة الخطرة تعلمت ما هو اكثر من القراءة وفهم ما اطلع عليه، لأنني كذلك عرفت اكثر من غيري من الأطفال طبيعة الرغبات والعواطف البشرية. لم افهم بالطبع طبيعة العلاقات بين الجنسين، ولكنني أحسست بالمعاناة التي تتضمنها. هذه العواطف الغامضة التي أحسست بها واحدة تلو الأخرى لم تسيطر على قدراتي الفكرية فحسب، ولكنها ساهمت في صياغة نمط معين من التفكير الذي عانيت منه، بحيث رأيت العالم بصورة رومانسية حالمة، ولم تفلح التجربة حتى هذه اللحظة في معالجة هذا الطبع.
ما كان لي ان اعرف الشر، حين لم أر أمامي سوى أمثلة الخير وافضل الناس. لم بستمع أبى او عمتي او الأقارب والأصحاب لما قلت، ولكنهم وهبوني الحنان والرعاية وأحببتهم لهذا السبب. ما طلبت سوى القليل، وهذا تحقق دائما. اقسم انني لم اعرف معنى كلمة "نزوة" حتى بدأت بالدراسة مع معلم. باستثناء الأوقات التي قضيتها في القراءة والكتابة مع والدي، او حين ذهبت المربية بي للتجول، بقيت مع عمتي، جالسا بجوارها، متطلعا لها وهي تحيك الثياب، مستمعا لغنائها، وكنت قانعا بهذا. مرحها ولطفها وجمالها الرقيق يبقيان في ذاكرتي لدرجة انني أستطيع تذكر نظرتها وسلوكها والحنان الذي أبدته نحوي. أستطيع تذكر ثيابها وطريقتها في التمشي وحتى كيفية ترتيبها لشعرها بدون ان أنسى الخصلتين من الشعر الأسود اللتين تركتهما فوق جبينها، وهو الأسلوب السائد خلال تلك الأيام.
لانها كانت تعرف عددا كبيرا من الأغاني التي غنتها بصوتها الرقيق العذب تعلمت منها حب الموسيقى التي درستها وكتبت عنها في مرحلة مقبلة من حياتي. اما مرحها، فقد طرد كل الأحزان من عالمها وحياة من حولها من الناس. عذوبة صوتها تبقى في ذاكرتي، وحتى هذه اللحظة افرح حين استرجع بعض تلك الأنغام والكلمات. هاأنا الآن، وقد كبر بي العمر وأحاطت بي الهموم، ومع ذلك لا أزال ابكي حين أهمهم بأحد تلك الأنغام بصوت مكسور مرتعش.
قضيت جل حياتي وأنا أتوق لحب متبادل، بدون أن انبس بأي حرف يدل على عواطفي لمن عشقتهم. مع أنني عانيت الأمرين من الخجل الشديد الذي منعني من البوح بمشاعري، فقد كنت دائما أضع نفسي والحبيب في مواقف تدل على مشاعري. كنت أجد لذة في الجلوس بجوار قدمي حبيبتي المتعجرفة، مطيعا لأوامرها، طالبا منها الغفران، وكلما ازداد خيالي التهابا اشتد تمسكي بالعفة. من الواضح ان هذا الأسلوب في ممارسة الحب لا يؤدي الى نتائج ملموسة ولن يشكل أي خطورة تذكر على براءة المحبوب. لهذا السبب لم امتلك من عشقت في الواقع، وان كان لي كل لذات الجسد في الخيال. وهكذا حافظ الخجل على صفاء روحي وعفة جسدي لذات السبب الذي كان، بشيء من الجرأة، سيلقيني في خضم الحسية الحيوانية.
أنا اذا رجل مزدوج الشخصية: في لحظة أكون عاطفيا مجنونا متهورا لا اعرف الحذر والخوف او حتى الحشمة، لا يمنعني من الوقاحة والعنف سوى خوفي على من احب. ولكنني في لحظة أخرى أصير كسولا أعاني من الخجل الشديد الذي يمنعني حتى من الحركة: مجرد كلمة لابد من قولها، او حركة لابد من فعلها، تقض مضجعي. الخوف والخجل يسيطران علي لدرجة أنني أتمنى الهروب من نظرات البشرية جمعاء، وهذا لدرجة أنني لو اضطررت للفعل، فلن اعرف التصرف القويم من شدة الاضطراب. ساعة العاطفة، تأتى لي الكلمات الصحيحة، ولكنني في الحوار العادي لا أجدها، واعاني الأمرين لمجرد ان تبادل الكلمات ضرورة حياتية.
بالإضافة لهذا، لا ارغب بما يمكن للنقود شراءه. لا أريد سوى اللذة التي لا يسممها المال ويشوهها. مثلا، احب الطعام والشراب، ولكنني لا أطيق قيود المجتمع الراقي او فوضى الحانات مما يحتم علي الشرب وتناول الطعام برفقة صديق. وحيدا، يسرح خيالي بعيدا ولا اشعر بلذات الفم. ذات الصفة تميز علاقاتي بالنسوة: فلو رغب دمي بهن، يظل قلبي يبحث عن الحنان. النسوة اللواتي يعرضن أجسادهن للبيع لا يمتلكن السحر الذي يخلبني. وهذا هو الحال مع كل ما أراه حولي من لذات: لو كان للذة سعر، لكانت لذة فاترة بالنسبة لي. أريد اللذة التي تكون فقط للإنسان الذي يعرف كيف يستمتع بها، لا لكل من امتلك القدرة على شرائها.
اعشق الحرية وابغض القيود والصعاب والاعتماد على الغير. طالما تبقى النقود في محفظتي، ستضمن لي الاستقلال وتخلصني من الحاجة للبحث عن وسائل لتعويض ما فقدت وهي ضرورة ابغضها. وهكذا يجعلني الخوف من الفاقة بخيلا. يمكن ان يكون المال وسيلة للتحرر، ولكن في حالة استسلام المرء للجشع والسعي وراء المزيد، يصير وسيلة للاستعباد. ولذلك أتمسك بما لدي و لا اطلب المزيد.
سبب لا مبالاتي هو ان لذة الملكية لا تستحق معاناة السعي لها. اما تبذيري فيسببه نوع من الكسل: حين تأتى الفرصة المؤتية للتلذذ بالصرف، استخدمها. النقود لا تغريني مثل الأغراض، بسبب وجود وسيط بين الرغبة والمرغوب، واختفائه في لحظة الاستهلاك. حين ارى ما أريد، ارغب باقتنائه، أما لو شاهدت الوسيلة للوصول له فقط، فلا يكون للإغراء القوة نفسها. لهذا السبب مارست السرقة، وحتى الان، اسرق الصغائر لان هذا افضل من السؤال والسعي، ولكني لا اذكر أبداً أنني سرقت أي شيء من المال.


من الكتاب الثاني (سنوات 1728-1731)
...تعلمت درسا أخلاقياً هاما، قد يكون الوحيد الذي يملك أي قيمة عملية، وهو ان أتجنب تلك المواقف الني تجبرني على الاختيار بين مسئوليتي ورغبتي، بحيث يكون مكسبي على حساب خسارة الآخرين وإلحاق الأضرار بهم. بغض النظر عن مدى التزام الفرد الذي يصل لهذا الموقع بالفضيلة مبدئيا، ستراه يضعف شيئا فشيئاً بدون ان يشعر بهذا الضعف، ويصير ظالما شريرا بفعله، بدون ان يكف عن تصور انه ما زال عادلا في قلبه.
اعتمادي على هذا المبدأ جعل الكثير من المعارف يتهمونني بالغباء، بعدم القدرة على اتخاذ القرار، وحتى بضعف الشخصية. في الواقع، لم ارغب أبداً بلعب أدوار تشبه أدوار الآخرين او تختلف عنهم، بل رغبت بإخلاص بفعل الصواب. لذلك تجنبت دائما الموقع الذي سيتيح لي حرية الاختيار بين مصلحتي ومصالح الآخرين لانه قد يخلق في قلبي الرغبة السرية لإلحاق الضرر بهم.
...أحببت بصدق واخلاص تام حرمني من السعادة. لم تكن العواطف ابدا اكثر حيوية وصفاء مما كانت عليه في حالتي. فقد كنت مستعدا للتضحية بسعادتي الف مرة من اجل إسعاد الإنسان الذي أحببته للحظة واحدة. كانت سمعتها اكثر أهمية من حياتي، وما كنت مستعدا لإزعاجها للحظة واحدة من اجل لذتي. هذا الإحساس جعلني أعيش الحب في وسط من الحذر والسرية مما حرمني من الوصول لأي نتيجة. عدم نجاحي مع النساء سببه اذا تعلقي الشديد بهن.


من الكتاب الثالث (1731-1732)
شعرت بمدى تعلقي بالسيدة دوانز حين غابت عني. قنعتُ ساعة تواجدنا سويا، أما حين غيابها، فتململتُ وعانت روحي من عدم الاستقرار. حاجتي للبقاء معها عصفت بروحي وملأت عينيي بالدموع أحياناً. لا أستطيع ان أنسى ذلك اليوم حين فرح الجميع بالأعياد، ولكنني، بسبب رحيلها لمدينة أخرى، تركت الأفراح وقريتي وتجولت في الريف وقلبي مفعم بالرغبة في ان اقضي عمري معها. أدركت استحالة ما ارغب به، وعرفت ان ما أسعدني الآن ساعة البقاء معها لن يبقى. هذه المعرفة أحزنتني، ولكنه كان حزنا بلا ألم، شتتته الآمال اكثر من مرة. أصوات الأجراس وتغريد الطيور، جمال النهار وسحر الطبيعة، ومساكن الفلاحين المتناثرة في كل مكان، والتي حلمت بان يكون مسكننا واحدا منها، كل هذه العوامل سمت بروحي لنشوة لا يمكن وصفها. لا أتذكر أبداً أنني وجدت مثل هذه السعادة في الحلم بالمستقبل، وحين تحقق الحلم لم يختلف كثيرا عما رايته في خيالي مما جعلني اعتبره رؤيا منت علي بها السماء. الخطأ الوحيد كان في رؤيتي للمدة: لأنني تصورت أننا سنقضي الأيام والشهور في هدوء دائم، بينما لم يبق الواقع الا لحظات. خسارة! سعادتي الدائمة كانت فقط في حلم تحقق في لحظة ومضى سريعا تاركا الذكرى ومعرفة ما كان.
لماذا، حين وجدت الكثيرين من الشرفاء في طفولتي، لا أري الا القليلين في كبري؟ هل اندثر ذلك النوع من البشر؟ لا، ولكن الطبقة التي ابحث عنها ما عادت كما كانت. بين الناس لا تتحدث العواطف الجياشة الا فيما ندر، اما بين الصفوف الارقى، فهي قد كُبتت تماما، ولا يُسمع الا صوت يدل على الغرور والرغبة في المصلحة.
نقيضان يتحدان في نفسي بطريقة يصعب علي فهمها: عواطف نشطة عاصفة، تقابلها أفكار ضعيفة بطيئة النمو لا تتضح معالمها الا بعد فوات الأوان. من الممكن القول ان عقلي وقلبي لا ينتميان لذات الفرد: فالإحساس يحتل روحي بسرعة البرق، ولكن، بدلا من المعرفة، التهب حماساً وافقد القدرة على الرؤية. اشعر بكل شيء ولا أرى أي شيء. فحين تخترقني العاطفة، افقد القدرة على التفكير الذي يحتاج للسكينة. الغريب هو انني برغم عواطفي الجياشة، أظل قادرا على الوصول للقرار الصائب خاصة لو لم أتعجل.
هذا البطء في التفكير وحيوية العاطفة لا يتدخلان فقط في حواري مع الآخرين، ولكني أحس، حتى في ساعات الوحدة والعمل، بالأفكار تنتظم في رأسي بصعوبة شديدة، تنموا هناك وتنضج فقط مع مرور الكثير من الوقت. العاطفة التي تفيض في داخلي مع بداية اي مشروع فكري تحرمني من القدرة على الكتابة وتجبرني على الانتظار. ثم تهدا العاصفة ويتضح المشهد لناظري ويأخذ كل شيء مكانه الطبيعي، ولكن فقط بعد فترة طويلة قد ضاعت في الفوضى والضياع.


من الكتاب الرابع (1731-1732)
قررت الذهاب الى لوسان حتى أستطيع البقاء بجوار بحيرتها الجميلة. نادرا ما اتخذت القرارات المهمة بمنطقية اكثر. ما يبدو كحلم في الأفق البعيد لا يكفي لدفعي للتصرف. عدم معرفة الفرد بما سيحدث يجعلني أرى التخطيط للمستقبل كعملية خداع يسقط المغفلين ضحايا لها. مثل غيري، كثيرا ما أطلقت العنان لخيالي وحلمت بالمستقبل، ولكن على شرط ان لا يتطلب تحقيق الحلم أي عناء. اقل اللذات العابرة أهمية تغريني اكثر من كل متع الجنة. لكن اكثر ما أخشاه هو اللذة التي ينتج عنها الألم لأنني احب اللذة خالصة بلا أي معاناة.
كلما اقتربت من إقليم فاود، أحس بمشاعر تطغى عليها ذكرى السيدة وارنس التي ولدت هناك، ووالدي الذي عاش في ذات المكان، والمدموزيل دفولسن التي عرفت معها أيام الحب الأول، وعدة رحلات سعيدة أخرى قمت بها لذات المكان حين كنت طفلا. ما أن أملت بالسعادة والآمن اللذين افتقدهما الان حتى شددت رحالي الى إقليم فاود بجوار البحيرة. أتمنى هنالك ان يكون لدي صديق مخلص وزوجة تحبني وبقرة وقارب صغير، وهو كل ما يحتاجه الإنسان ليكون سعيدا في هذا العالم. ما يؤسفني هو طبع السكان المحليين الذي يختلف كثيرا عن جمال المكان.
خلال هذه الرحلة، سلمت نفسي للأحزان السعيدة واستمتعت بألف لذة فريدة. كم مرة جلست على ضفة النهر وبكيت وشاهدت دموعي تسقط للنهر وتذوب في مياهه. زيارتي لباريس خيبت أملى. جمال بعض المدن الريفية التي زرتها من قبل، وتنظيم شوارعها، جعلني أتوقع ان تكون باريس مدينة عظيمة. تصورت في خيالي بلدا جميلة بقدر ما هي جليلة، لا يوجد فيها سوى القصور الذهبية والشوارع الواسعة. ولكني، حين وصلت لضاحية سنت ماركو صُدمت بمرأى الشوارع القذرة والمنازل السود المكفهرة والإحساس العام بالفقر والديون المستحقة، الذي جسده منظر المتسولين ومرقعي الثياب المستعملة وبائعي القبعات القديمة. كل هذا حُفر في ذاكرتي وخلق انطباعا سلبيا لم يغيره كل ما رأيت فيما بعد من عظمة، وحتى هذه اللحظة، لا ارغب بالحياة في العاصمة بسبب هذا الانطباع الأولى. طوال الوقت الذي اضطررت لقضائه في العاصمة، سعيت جاهدا للفرار منها.
هذه هي نتيجة الخيال الذي يبالغ ويتوقع اكثر مما هو موجود فعلا. سمعتهم يمتدحون باريس، فتصورت أنها اعظم من بابل في العصور الغابرة، ثم جاء الواقع ليحطم هذا التصور. ذات الشيء حدث حين زرت الأوبرا التي هرعت لها في اليوم التالي لوصولي وتكرر عدة مرات بعد ذلك.
مناظر الريف الجميلة، الهواء النقي، الصحة التي تتجدد مع المشي، غياب كل ما يذكر الإنسان بالحاجة للآخرين، كل هذا يحرر الروح ويخلق الشجاعة الفكرية في نفس الإنسان ويلقي بها في خضم الطبيعة التي تراها بحيث تستطيع جمع، اختيار، وامتلاك كل ما تريد بلا خوف أو موانع. اشعر وكأنني أتحكم بالطبيعة نفسها، بينما يحلق قلبي من مكان لاخر، مختلطاً ومتوحدا بكل ما يشفيه حتى تسكره النشوة.
في المساء استلقي في الجو النقي، أنام على سرير من الزهور. أتذكر أنني قضيت ليلة سعيدة خارج المدينة حيث أحاطت بي الحدائق من كل ناحية. ذلك اليوم كان شديد الحرارة، اما المساء فكان بديعا، لان الندى رطب الأرض، وهدأ الجو بلا نسيم، بينما تعالى تغريد الطيور. تاركاً لقلبي ومشاعري حرية الاستمتاع بكل شيء، غارقا في حلمي، استمررت في التجول حتى آخر الليل بدون أدنى شعور بالإرهاق.


من الكتاب الخامس (1732-1736)
يقال أن السيف يمزق غمده، وهذه هي قصتي. عواطفي أعطتني الحياة، وعواطفي قتلتني. أي عواطف اعني؟ تفاهات كفت مع ذلك لتشويقي وكأنني أسعى لامتلاك عروش الدنيا بما فيها. أهمها سببتها النساء. فحين امتلكت احداهن، هدأت حواسي، بينما ظل قلبي متأججاً. الحاجة للحب التهمتني حتى ساعة النشوة. كان لي السيدة دوارنز التي لعبت دور الأم، وكان لي صديق مخلص، ولكني مكثت بلا حبيبة. تصورت واحدة في مكانها ورسمتها بألف صورة لخداع نفسي. ولو كانت المرأة التي احتظنتها هي السيدة دوارنز، لما بقيت أي رغبة او متعة. متعة! وهل هذه من نصيب الإنسان؟ لو كنت قد جربت لمرة واحدة متعة الحب التامة، لا اعتقد ان جسدي الضعيف كان سيستحملها. كنت قد مت فورا.
وهكذا احترقت بنار الحب، ولكن بلا شخص احبه، وهذا الوضع كان اكثر ما أتعبني. كنت متململا بعد ان سمعت بعلاقة السيدة دوانز برجل سيئ، وبسلوكها غير الرزين الذي خشيت ان يحطمها في وقت قريب. خيالي القاسي الذي تصور دائما المصائب رسم لي صورة واقعية لما سيحدث. وهكذا تناوبتني حالات الخوف والرغبة حتى وصلت لحال يرثى لها.


من الكتاب السادس
في هذه الأيام بدأت مرحلة السعادة القصيرة في حياتي، تلك الأيام الآمنة التي تجعلني أقول، "لقد عشت فعلا." ليت تلك اللحظات تعود من جديد، وتمضي ببطء شديد. كيف يمكنني تذكر وذكر ما لم يقال بالكلمات، بل أحسست واستمتعت به؟ استيقظت وكنت سعيدا، تركتها وكنت سعيدا. تجولت في الحقول والوديان، قرأت، عملت في الحديقة، بينما جاءت السعادة ورائي في كل مكان بلا سبب. الفرحة نشأت في أعماقي وما تركتني للحظة واحدة.
أتمنى لو عرفت اذا كانت ذات الأفكار الطفولية تأتى لغيري من الناس؟ أثناء دراستي، بينما كنت أعيش حياة الملاك الطاهر، عانيت من الخوف من إمكانية ذهابي الى الجحيم. سالت نفسي، "في أية حال انا الآن؟ لو مت في هذه اللحظة، ماذا سيكون مصيري؟" للكاثوليك اعتقاداتهم بخصوص هذه المسالة، ولي شخصيا رأي آخر. وقد استخدمت وسائل سيجدها البعض مضحكة، بل مجنونة، للتخلص من الخوف الذي عانيته. ذات يوم، بينما كنت أفكر في هذا الموضوع البائس، بدأت بإلقاء بعض الأحجار على الأشجار المجاورة لتسلية نفسي، وفكرت: "سألقى بهذا الحجر على تلك الشجرة، ولو أصبتها، فسيعني هذا ان الله سيرحمني، اما لو لم أصبها، فقد حلت بي اللعنة." ألقيت الصخرة بقلب خافق ويد مرتعشة، ولكنها أصابت الهدف خير إصابة. أقول الحق، كانت شجرة كبيرة سهل علي أصابتها. ومع ذلك، لم اشك أبدا بان روحي قد نجت من نيران الجحيم. حين أتذكر هذا الحدث، لا اعرف هل يجدر بي الضحك او البكاء. العظماء سيضحكون من هذا السفه، ولكنني اقسم بأنني آمنت آنذاك بنجاة روحي من العذاب.

يعتبر روسو الحزن حالة نفسية تتيح للوعي الفرصة للتأمل في النفس والمجتمع، ولذلك يصفه بانه حزن سعيد. وهذا الاتجاه نحو تقدير عواطف مثل الكآبة وغيرها من احوال البأس النفسي من المزايا الاساسية للمدرسة الرومانسية التي شاعت في اوربا القرن التاسع عشر، وكان روسو من مؤسسيها
.


فيما قضاه روسو في أخر حياته :
عندما تحول روسو إلى الداخلية
الكاثوليكي، خسر حقوق المواطنة في جنيف. ولكي يستعيد هذه الحقوق تحول مرة أخرى عام 1754م إلى المذهب البروتستانتي. وفي عام 1757م اختلف مع الفلاسفة؛ لأنه استشعر منهم الاضطهاد.عام 1757 زار المغرب كمساعد لسفير البندقية وأبدى إعجابه به وتغنى بجمال فتاة مغربية أغرم بها كان اسمها حميدة.







" في نهاية المطاف مع أجزاء ولحظات وتدوينات لحياة فيلسوف عملاق له أثر أدبي وعقلي على كثير من الأدباء والشعوب وأهمها الشعب الفرنسي ، يعتبر علماء العرب وفلاسفته أن جان جاك روسو من مٌمثلي الليبرالية السامية ، ويختلفون معه في كثير من النقاط ولكن هُنا ألقينا لمحات بسيطة على حياة هذا الرجل البائس "
 
تحميل كتاب الأعترافات لمّن أراد التحميل :


http://www.4shared.com/office/yKjiMyNh/___.html


 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق